عزاء بالجملة


الدم المصرى كله حرام، وهذا مبدأ لا يتجزأ.. ليست هناك دماء أغلى من دماء. المبدأ الثانى هو أن العنف لا يحسم أى شئ ولا يولد إلا العنف. وما يحدث اليوم كابوس بكل المقاييس أعتقد أننى سأفيق منه لأجد أننا ما زلنا يوم 12 فبراير 2011 نحتفل بتنحى مبارك.
وعدت بالصمت، لكن الصمت هذا الأسبوع جريمة. يجب أن أؤدى واجب العزاء ثم أصمت.
عزاء حار لمصر التى تمر بلحظات من أقسى وأخطر لحظات تاريخها فى حرب شوارع حقيقية، وبلمحة بصر صار المشهد لا يختلف كثيرا عن لبنان والجزائر أيام الحرب الأهلية، وسوريا الآن. لقد مات الأمن والأمان وصارت الشوارع خطرة فعلا، وصار بوسعك أن تجلس فى بيتك وتسمع طلقات الرصاص فى الشارع تحت.
عزاء حار لضحايا مذبحة الأربعاء. قد تختلف حول 30 يونيو وهل هو ثورة أم انقلاب أم بين الاثنين – وأنا شخصيا لم أعتبره انقلابا قط بسبب الملايين التى خرجت ضد مرسى – لكنك لن تختلف أبدا حول كون ما حدث يوم أربعاء الرماد مذبحة كاملة، ولو لم تعتبره كذلك فأنت حر.. فى زمن يتهمون فيه البرادعى بانه خلية أخوانية فأنت حر. كان بوسع الداخلية أن تحاصر الإعتصام بإحكام ولا تسمح بدخول الطعام والماء والوقود.. فقط تسمح بخروج من يريد أن يخرج.. هذا ما كانت تنويه وهذا ما اقترحه العقلاء، وهو بالطبع غير ما حلم به الإعلاميون الفاشيون الذين تمنوا حدوث مذبحة كاملة. تقول إن الحصار حدث؟.. إذن كيف دخلت كل هذه البلدوزرات وشكائر الاسمنت والأبقار ومدن ملاهى الأطفال للاعتصام؟.. لماذا لم تحكم الداخلية الحصار أولا ولمدة أسبوع واحد؟. قبل فض الاعتصام بيوم واحد طالبت نوارة نجم بألا يتم فضه بالقوة لأن الداخلية لا تجيد سوى إطلاق الرصاص وسوف تحدث مجزرة.. هذا ما حدث فعلا. أعرف ثلاثة ممن ماتوا فى فض الاعتصام، وأدرك يقينا أنهم لم يكونوا مسلحين، ومنهم الطبيب والمهندس والصيدلى. ومعنى هذا خطير. إذا كنت بالصدفة أعرف ثلاثة فلابد أن عدد القتلى الحقيقى يتجاوز بمراحل رقم 500 الذى أصدرته وزارة الصحة. على فكرة لم يستطع أقاربى استرداد جثة ابنهم إلا إذا قبلوا أن يُكتب أن سبب الوفاة (انتحار). بالتأكيد كان هناك سلاح.. لا يزعمن أحد أن الاعتصام كان سلميا بالكامل، وهناك لدى كل طرف أفلام تثبت كلامه، وقد رأيت إسلاميين يحملون البنادق الآلية ويطلقون بشراسة، كما رأيت بلطجية يحشون مسدساتهم وهم يقفون جوار رجال الشرطة ثم ينطلقون للعمل، ورأيت رجال شرطة حليقى الوجوه مبتسمين يطلقون الرصاص فى مرح كأنها رحلة صيد بط. لكن هل كل من ماتوا كانوا مسلحين؟. كانت النار مشتعلة فى مكان واحد.. ما فعلته الداخلية هو أنها ركلت الشعلة فتناثر الفحم المشتعل فى أرجاء مصر. والعنف لا يولد إلا العنف. وأعتقد أنهم قدموا خدمة عظيمة للمتطرفين وتنظيم القاعدة.. كل من مات قد ترك ثلاثة يريدون الانتقام بأى ثمن.
أطلب بحرارة من الإسلاميين أن يتراجعوا حقنا للدماء، خاصة أنهم يواجهون الداخلية والجيش معا. لا للانتحار الجماعى.. نكرر أن العنف لا يجلب إلا العنف وكل الدم المصرى حرام.. لا نريد أن نرى دمكم ولا دم رجال الشرطة والجيش.
لا أمسك العصا من النصف كما يحلو لبعض الحمقى أن يعتقدوا، لكن مبادئى لا تتجزأ وهذا ما لا يفهمه كثيرون، ومبادئى هى أن الدم المصرى حرام كله. لهذا عزائى الحار لأسر من ماتوا من رجال الشرطة. هم مصريون.. ومن لم يؤرقه مشهد ضباط وجنود كرداسة المذبوحين لا يستحق لقب بشرى أصلا. فى النهاية هم لم يكونوا يطلقون الرصاص على المعتصمين عندما تم ذبحهم. كانوا يؤدون واجبهم.
عزائى الحار للمصريين على كنائس المسيحيين العديدة التى احترقت. وشرخ آخر فى المجتمع المصرى لا يمكن أن يلتئم. تصرف الأخوة المسيحيون بحكمة ووطنية بينما اعتقد من فعل هذا انه سيدمر نسيج المجتمع المصرى بالكامل. من جديد لا أمسك بالعصا من المنتصف لكن من يرحب بحرق كنيسة أو يصمت عنه هو مثقف منافق، دعك من أنه غبى لا يفهم خطر هذا على الأرض التى يقف فوقها ذاتها. مخالب القاعدة تظهر بوضوح هنا. سؤالى هو: ألم يكن هذا العنف متوقعا بعد فض الاعتصام الوحشى، فلماذا لم يتم تأمين الكنائس وأقسام الشرطة بشكل حازم ؟.. قالوا إنهم أمنوا الكنائس والأقسام والسجون بإحكام قبل 30 يونيو.. فلماذا لم يحدث هذا فى 14 أغسطس؟
عزائى الحار للمصريين الذين كانوا يهتزون لمقتل شهيد واحد مثل خالد سعيد، واليوم يصمتون لدى مقتل ما يقرب من 1500 مصرى فى شهر ونصف حسب تقارير وزارة الصحة وليس قناة الجزيرة.
عزائى الحار للدكتور البرادعى الرجل النبيل النظيف الذى لم يفهمه أحد.. حتى أنا أسأت فهمه ووجهت له الكثير من اللوم فى مقالاتي؛ لأننى اعتبرته متخاذلا يجيد السباحة على الشط، والإفتاء على تويتر لا أكثر. مزقه الإسلاميون فيما مضى وهاجموه فى شخصه وعرضه واتهموه بكل شيء حتى احتلال العراق، وهو اليوم يستقيل احتجاجا على مذبحة جرت لهم، وهكذا أثبت أنه يتسق مع مبادئه. هكذا صار الجميع ضده، وراح اصحاب الوطنية المجانية يتهمونه بالعمالة والخيانة ورفعوا عليه عدة قضايا، وإعلامى شهير قال إنه جبان متردد وخائن.. هل تتهمه بالخيانة لأنه استقال؟... كفاية فضائح بأه. العالم كله يشاهد هذه المهزلة..
على كل حال يمكن معرفة حال البلد لو نظرت إلى البرادعى وشفيق.. لو وجدت البرادعى ممتعضا وشفيقا مسرورا فنحن نتحرك فى اتجاه خطأ.. والعكس صحيح..
خالد داود المتحدث باسم جبهة الإنقاذ عدو شرس للأخوان، ولديه مساجلات عديدة فى قناة الجزيرة تظهر بوضوح حماسته لـ 30 يونيو، لكنه مثقف نبيل شريف لم يقبل ببساطة موقف جبهة الإنقاذ من مجزرة الأربعاء ومما حدث للبرادعى، واستقال. ترى كم سيمر من الوقت قبل أن يتهموه بأنه خلية إخوانية نائمة؟ هذا هو المنطق المريض الذى ابتلينا به جميعا: كل من لايدعو لذبح الاخوان هو اخوان.
عزائى الحار لمصر التى كانت تستحق أفضل من هذا بكثير بعد تلك الثورة العظيمة، وعزائى لشهداء ثورة يناير الذين ضاعت قضيتهم وسط كل هذه الدماء.. لا اعتقد أن أى تحقيق جدى سيتم الآن. هل يتذكر أحد حسنى مبارك والعادلى وأحمد عز وموقعة الجمل؟.. أنا شخصيا نسيت...
عزائى الحار للشباب الذين استبد بهم الإحباط، لدرجة أن هناك مجموعة على النت تحمل اسم (التفكير فى الهجرة) على غرار (التكفير والهجرة). عزائى لمصر التى كانت تقرأ عبارة (حرب أهلية) فترتجف وتقول (أعوذ بالله.. هذه أشياء تحدث للآخرين فقط).. واليوم تشهد حربا أهلية شديدة العنف.
اقتباس من مقال قديم لي: جاء البرادعى من نفس المقلع الذى جاء منه غاندى ومارتن لوثر كنج (وكلهم تم اغتيالهم لإسكاتهم لو لاحظت هذا !)، وكان يتحدث لغة راقية لا تناسب معظم الشارع.. الشارع الذى اعتاد صخب سماعات الميكروباص التى تتحدث عن الشبشب الذى ضاع مع انه كان بصباع، لهذا بدا لهم غامضا باهتا غريبا..

دبّة النملة -5





فجأة وجدت يدي تطبق على سكين الطعام الضخمة (رسوم: فواز)
فجأة وجدت يدي تطبق على سكين الطعام الضخمة (رسوم: فواز)
أعتقد أن قلبي كان موشكا على التوقف..
هناك لحظة مخيفة بين التحديق في ذلك الوجه يحملق فيك، وإدراك الحقيقة المخيفة.. إنه يراك..

الآن أفهم سر توتر الزوجة وشحوبها.. أفهم لماذا ذهبت نورا عند جدتها. هل رأت الزوجة هذا المشهد؟ لا أظن وإلا ما ظلت حية.. على الأرجح هي خمنت أو شعرت بشيء ما خطأ. لكن لا تقل لي إنها رأت زوجها يمشي على الجدران وقبلت ذلك!

رأيت ذلك الشيء الذي يمشي على السقف ينحدر نحوي.. يهبط الجدار بسرعة خاطفة مما تميز الزواحف.. سرعة خاطفة تقطعها وقفات متحفزة حذرة. صمت تام يجعلك تشعر أن أذنك مختلة. فجأة وجدت يدي تطبق على سكين الطعام الضخمة تلك.. شعرت بأمان شديد وانا أعتصرها..

هرعت إلى الباب فخرجت، ثم أغلقته خلفي في قوة وركضت إلى الصالة.. هنا رأيت مقبض الباب ينفتح. وفي اللحظة التالية كان شاكر يركض على قدميه متجها نحوي. لقد تبدل وجهه فعلا.. لم يعد وجه المهندس الظريف البارع صديقي القديم. هذا وجه.. وجه وَزَغَة.

سقطت على الأرض متعثرا.. من الحمار الذي وضع هذا البساط هنا؟
تمسكت بالشرشف فجذبت مزهرية كانت فوقه لتسقط وتتهشم.. ثم وجدت نفسي راقدا وقد جثم فوقي شاكر يحملق في وجهي بعينين زجاجيتين.. لسانه العملاق يتدلى نحو وجهي. كان هلعي لا يوصف.. لا أعتقد أنني حركت أنملة ولا أطلقت أي صوت. فقط رفعت السكين لأعلى.. نحو قلبه.. وشعرت بالنصل يخترق شيئا. ثم أدركت أن الأمر انتهى..

إنه جسد خال من الحياة يجثم فوق صدري...
نهضت بصعوبة وأنا أحاول استيعاب هذه الحقيقة المروعة.. لقد مات شاكر. رأيت شفتيه الجافتين تحاولان نطق شيء. في النهاية استطاع أن يقول بصوت كالفحيح:
ـ اقتل دكتور.. أنطونيان.

ثم تجمد وجهه على هذا التعبير وهذه النظرة.. كانت لديّ في طفولتي دمية تفتح جفنيها وفمها.. وعندما نفدت الحجارة الجافة ظل وجهها في وضع واحد متصلب. تذكرت هذا المشهد الآن.

سمعت صرخة حادة رفيعة من خلفي. لم يكن من داع للنظر لأعرف أنها مها الزوجة.. لقد قتل زوجها أمام عينيها، ولسوف يكون من الصعب أن أشرح أنه من فعل ذلك.. هناك دعابة قديمة عن رجل الكويكرز (وهو مذهب ديني يميل للسلام) الذي وجد لصا في بيته فأخرج المسدس وصوبه عليه وقال:
ـ عذرا يا أخي.. لكنك تقف بالضبط في المكان الذي سأطلق فيه النار!

تذكرت هذه القصة الضاحكة وأنا في موقف مختلف تماما..
كم من الوقت يلزم رجال الشرطة حتى يجدوني؟ عندها فكرت فيك يا محمود.. سوف أتوارى عندك ولكن بعد ما أعرف الإجابة..

هرعت أركض نازلا في الدرج.. ركضت في الشارع وأنا لا أفكر إلا في شيء واحد.. رامز..

ماذا دهاه؟

***

كان باب الشقة مواربا..
دققت الجرس عدة مرات فلم يرد أحد. طرقت الباب مرارا..
كان هناك صوت عزف.. عزف رقيق على آلة وترية. عزف لا يقدر عليه سوى رامز.  دخلت إلى الشقة في حذر كأنني لص. شقة فاخرة كما تعرف، ونورهان قد جعلت منها جنة.. لكن هناك شيئا خطأ.

رحت أبحث بين الحجرات عن رامز أو عن نورهان فلم أجد أحدا.. أين الجميع؟
رامز يتمتع بأذنين حساستين جدا.. بالواقع هو يسمع "دبّة النملة".. لهذا لا بد أنه سمع خطواتي. من المعتاد أن أقابل نورهان في الصالة.. هي لا تكف عن العمل كالنحلة. أين الجميع؟

أخيرا وجدت غرفة المكتب.. كانت مظلمة تماما والباب مواربا.. فتحت الباب بحذر وانا أنادي رامزا.. شعرت بشكل ما أنه موجود.. لاحظ أنه لا يبصر، ويمكنه الوجود في الظلام بلا مشكلات. قلت بصوت عالٍ:
ـ رامز.. أرجو أن تكون بخير..
لا رد..

ـ رامز.. ذلك الطبيب الأرمني.. لقد اكتشفت أنه يستعمل جينات حيوانية.. جينات يحقن بها المرضى ليستردوا حواسهم... النتيجة هي أن المريض يتحول لحيوان آخر..
لا رد..
ـ رامز.. هل تسمعني؟

ثم سمعت صوتا غريبا.. بدأت عيناي تعتادان الظلام وأدركت أنه لا يوجد أحد.. هذا مكتب ومكتبة وأريكة.. لا أحد هنا..
لكن.. لماذا نظرت لأعلى؟ لقد صارت عادة لدي أن أنظر لأعلى... لقد كان الحافز قويا وثمة شيء يعبث في مؤخرة رأسي. نظرت في هلع وليتني ما نظرت..

أنت تعرف ما رأيت يا محمود.. وتفهم الأمر..
كائن كفيف لكنه يسمع كل شيء.. الإجابة سهلة جدا: الوطواط..
بشكل ما كان يتدلى مقلوبا من السقف متعلقا بركبتيه إلى دعامة عرضية قام بتثبيتها هناك.. مغمض العينين يزوم نوعا ويعزف على كمان صغير..

وفي لحظة وثب في الهواء ليسقط باتجاهي..
هذه المرة لم أستطع الفرار ولم أكن مسلحا، وشعرت به ينشب أسنانه الحادة في عنقي.. صرخت طالبا أن يتريث.. لكنه واصل مهمته.. ترى لماذا اختار الأرمني جينات وطواط مصاص للدماء؟

لم تطل العملية طويلا.. لقد تناول رامز وجبته.. وشعرت أن بوسعي أن أنهض. أما هو فقد قام واتجه ليسترخي على الأريكة منهكا راضيا..

أنا ما زلت حيا.. دوار قاتل يعصف بي وقدماي واهنتان لكني حي..
اتجهت للباب بلا كلمة وبقعة سوداء كبيرة في مركز البصر.. موشك على فقدان الوعي فعلا.. ترى أين نورهان؟ هل فتك بها؟ هل هربت؟

على الدرج فقدت وعيي لبضع دقائق. نهضت في النهاية واستطعت أن أخرج للشارع.. واستوقفت سيارة أجرة..




***

انفردت بالطبيب وقلت له إنه دمر مستقبلنا جميعا (رسوم: فواز)
انفردت بالطبيب وقلت له إنه دمر مستقبلنا جميعا (رسوم: فواز)
الآن أنا في دارك يا محمود. لا أحد يعرف أنني هنا.. أنت صحفي ويهمك أن تكتب تجربتي كاملة لكني أرفض ببساطة أن تنشر الجزء التالي.

"سوف أظل هنا أطول فترة ممكنة.. هات قرصا من الديازيبام مع بعض الماء وكف عن الرجفة.
أنت تعرف أنني اتجهت إلى دكتور أنطونيان.. تعرف أنني ابتعت سكينا أخفيته في ثيابي وأنا في الطريق له.. لقد قتلت صديقا منذ ساعات، فلا بأس من قتل وغد أريح المجتمع منه. عندما انفردت بالطبيب قلت له إنه دمر مستقبلنا جميعا.. بل إن هناك قتيلا وقاتلا في الموضوع.. الشرطة تبحث عني في كل مكان بلا شك ولا أحد يقدر على الفرار من الشرطة طويلا"..

وهنا أخرجت السكين..
حاولت طعنه لكني كنت واهنا بطيء الحركة بعد ما فقدت من دم.. وكان الوغد سريع الحركة برغم سنه، وعندما سقطت أرضا تكأكأ عليّ ثلاثة من الممرضين وقيدوني للأرض..
نهض الرجل إلى غرفة جانبية.. بعد قليل عاد حاملا محقنا.. وشمر ذراعي وهو يقول في وقار:
ـ أنت جلبت لي مريضين لهذا أنا مدين لك بخدمة.. الشرطة تبحث عنك، لهذا يجب أن أساعدك على الاختباء.. على التواري.. على الفرار بسرعة وخفة..
قلت في وهن:
ـ بم تحقنني؟
قال وهو يغرس الإبرة:
ـ جرعة مضاعفة.. سوف يبدأ العمل بعد ساعات.. لن تحتاج لجلسات أخرى.
ولا أعرف كيف وجدت نفسي في الشارع أبحث عن سيارة أجرة أخرى..

الآن يا محمود أنت تعرف قصتي بالكامل. ربما تأخذك الحمية فتذهب لتقبض على هذا الرجل أو تبلغ عنه الشرطة.. بالنسبة لي قد انتهى الأمر.. لقد قدم لي الرجل خدمة عظيمة فعلا.. يمكنك بسهولة أن تشم الرائحة.. يمكنك أن ترى الحراشف على يدي.. يمكنك أن ترى شكل فكي..
هكذا صار بوسعي أن أفر وأن أتوارى في أي مكان وأن أختبئ في البالوعات.. لن يجدني رجال الشرطة أبدا..
لكن كل ما أرجوه منك هو أن تسممني وتتخلص من جثتي إذا بلغ التحول مبلغا..

هات جرعة أخرى من الماء وقطعة خبز..

إن حياة الصرصور قد تكون مثيرة فعلا.

تمت

سوريا من جديد


 سوريا... الألم العربى المزمن، والأخت الجريحة التى لا تستطيع أن تقدم لها أى شيء، لأنك غارق فى المشاكل بدورك. وعدت ألا أتكلم فى السياسة ثانية، لأن زمن ابتلاع المرء لآرائه قد جاء. لكنى كما هو واضح كنت أتكلم عن السياسة الداخلية. أما سوريا فموضوع يهم الجميع بلا شك. سوف أنقل لك كلمات صديق سورى عزيز، ثم أعرج على مقال مثير للجدل نشر فى مجلة جلوبال ريسيرش (أبحاث العولمة) فى مايو 2012.. أى منذ أكثر من عام


يقول صديقى الحلبى: «لم يعد خالى يصلى التراويح فى المسجد، وانقطاع التيار الكهربائى أصبح يتجاوز الـ12 ساعة يوميًا وعشوائيًا، ولم تعد أصوات القصف غير معتادة، ولكنها أصبحت أشد وأهول... ظهرت خلال العام الماضى موضات مختلفة.. فهناك الخطف... وهناك القنص.. فى البداية كنا نسمع عن حالات قنص فى سوريا... ثم أصبحنا نسمع عن أشخاص تم قنصهم فى حلب... وحاليا صرنا نعرف أشخاصًا معرفة شخصية تم قنصهم.. أخشى أن نصل إلى مرحلة أكثر رعبًا وقربًا !!!... شرطة المرور عادت ولكن بدون أى فاعلية تذكر..البنزين مفقود !!!... والاتصالات واﻹنترنت ذات انقطاعات لفترات طويلة...ما حال الأوضاع عندكم؟!؟... أعرف أنها ليست فى أحسن أحوالها , لكنها تظل جنة مقارنة بما هو حال عندنا..»ـ

فى خطاب آخر يقول: «خالتى المسافرة إلى مصر منذ العام - أم أقول عنها النازحة - قد قررت البقاء عندكم طوال العمر مهما حصل من تضييق على السوريين عندكم، فهذا أضمن لها بالحياة من بقائها فى سوريا. بصراحة يا دكتور فإن الثورة فى سوريا قد حطمت ومزقت وشتتت كل عائلة فيها... سواء بالقتل أو بالنزوح أو بالفرار... حسبى الله ونعم الوكيل

لعل ما دفعنى إلى مراسلتك مجددا هو مقال قديم لك: (العيد.. بشار.. وأشياء أخرى)...هذا المقال مضى عليه قرابة العام تقريبا... المؤلم فى الموضوع أننى عندما أستمع إليه أحس أننى كنت سخيفًا مائعًا رقيعًا لا يعرف أى شيء فى الحياة... كنت أتحدث عن مشاهدات عايشتها واستفظعتها فى حينها...اليوم.. بعد مضى عام أستطيع أن أقول أننى كنت أحمقا سخيفا... لن أشرح لك الأوضاع عندنا هذه الأيام , ولكننى أكتفى بالقول أنها ذات ما حواه مقالك مضروبا بعشرة أضعاف.... حقا كانت الحياة مرفهة منذ عام مضى...»ـ

فى خطاب ثالث يقول: «أعتذر عن تأخرى فى التواصل معك خلال الفترة الماضية فالأوضاع كانت فى أسوأ احوالها... انقطاع كامل للنت فى حلب لمدة تجاوزت الشهر... انفجارات لم نشهد لها مثيلاً فيما مضى... انقطاع للماء لمدة أيام عديدة وحين عودتها تكون ضعيفة غير قادرة على ملء الخزانات... قصص وحوادث أقل ما يقال عنها أنها مريعة... حلب تم اختزالها إلى أحياء معدودة لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليد الواحدة...أما سكان الأحياء المنكوبة فقد سكنوا أى شىء آخر...أبنية مهجورة.. حدائق.. مساجد... مدارس... سكن جامعى... أحد النازحين فى السكن الجامعى هدد بحرق السكن بأكمله لو تم إخراجه وعائلته من السكن، فهو لا يعرف مكانا آخرا يؤويه... السكن الجامعى استقبل ما يزيد عن 31000 نازح فى غرفه وأكثر من 6000 آخرين فى حدائقه... ترى النازحين فى الشوراع الآمنة -حتى الآن- أشبه بالزومبى بملابس بالية ووجوه ذابلة ونظرات فارغة , يحملون ما بقى من متاع وممتلكات لا يلوون على شىء...لماذا قررت أن أكتب الآن ؟!؟... لأننى أتوقع انقطاع الاتصالات عن حلب مرة أخرى... و أعتقد أنها ستكون أطول هذه المرة... منذ سويعات تم إعلان (معركة الحسم) من قبل الجيش الحر، ولك أن تتصور حجم الانفجارات وكمية الرصاص الذى يتردد صداه بينما أكتب لك هذه الكلامات فى عجالة....أعتقد أن الأيام القليلة القادمة ستكون الاسوأ..»ـ

ـ«الحياة صارت لا تطاق... منتهى الاستهتار بالمدنيين والمواطنين.. حاليا أكتب على أنوار الشموع رسالتى هذه فالكهرباء مقطوعة منذ الثامنة صباحًا..... لا أعرف كم ستستمر بطارية السيارة التى أستخدمها فى منزلى بتوفير الطاقة لجهاز الراوتر الخاص بالنت والكومبيوتر...»ـ

يسألنى بعد هذا عن فرص العمل فى مصر، ولا يمكن ذكر التفاصيل هنا حتى لا أكشف عن هويته

ننتقل إلى المقال الذى نشر منذ عام ونيف فى جلوبال ريسيرش بقلم ميشيل سودوفسكى وهو أستاذ أمريكى فى الاقتصاد وبحوث العولمة:ـ

يتحدث المقال عن سيناريو السلفادور الذى بدأ جون نجروبونتى تطبيقه على العراق عام 2004 مع من يدعى روبرت ستيفن فورد، وهو من صار سفير الولايات المتحدة فى سوريا عام 2011.. قبل بدء المقاومة المسلحة ضد نظام بشار. سيناريو السلفادور هو عمليات قتل جماعى تقوم بها فرق موت تسببت فى قتل 75 ألف سلفادورى. كان نجروبونتى سفير أمريكا فى الهندوراس عام 1981 وقد أشرف من هناك على تدريب وتمويل مرتزقة الكونترا من نيكاراجوا. بعد هذا صار نجروبونتى هو سفير أمريكا فى العراق ومهمته ببساطة إعادة سيناريو السلفادور للعراق. يبدو أن تراث الخبرة انتقل إلى روبرت ستيفن فورد الذى قرر تطبيق نفس السيناريو فى سوريا. مثلاً حادث الحولة الشنيع... كاتب المقال يؤكد أن حكومة الأسد لم تقترف هذه العملية وإنما هناك سيل من الصور والأخبار المزيفة، بينما فرق القتل المدربة هى التى فعلت هذا. أى أن الحكومة السورية تتلقى اللوم على عمليات وحشية تقوم بها فرق القتل التى تمولها الولايات المتحدة، والمتهم الرئيس بهذا هو روبرت ستيفن فورد. لا تنس – يقول كاتب المقال – إن رئيس المخابرات المركزية الجديد الذى عينه أوباما هو جنرال ديفيد بترايوس الذى قام بإمداد حركة التمرد السورية بالسلاح. وهو مخلص لسيناريو السلفادور تمامًا. باختصار هؤلاء القوم ابتكروا اللعبة فى السلفادور.. تمرنوا عليها فى العراق.. أتقنوها فى سوريا

مقال سودوفسكى هذا يتحرك فى نفس النطاق الذى تحركت فيه كلمات هيكل حول تقرير الفريق الدابى الذى تحدث عن ضحايا لم يموتوا وتلفيقات، وصور مزيفة تمت فبركتها فى معامل باريس ولندن، وهذا التقرير تم إجهاضه. يرى هيكل إن روسيا والصين باستعمال الفيتو تحاولان على الأرجح منع سقوط سوريا فى يد الغرب أو احتلالها. برنارد ليفى الصهيونى له كتاب اسمه (الحرب بدون أن نحبها) يحكى فيه عن دوره فى ليبيا، وكيف لعب دور لورانس العرب وكيف كتب بيانات المجلس الانتقالى بنفسه وشحن السلاح للثوار

هل أصدق هذا الكلام؟... لا أعرف... كثرة المعلومات ووسائط الاتصال فى عصرنا هذا جعلتنا عاجزين تمامًا عن معرفة الحقيقة. لقد انتشرت المصابيح أكثر من اللازم فأصبنا بالعمى. الحقيقة أن الصورة محيرة ومليئة بالضباب.. لو كان بشار قد ارتكب هذه الجرائم فهو سفاح وعليه أن يدفع الثمن، ولو لم يكن هو الفاعل وفرق الموت التى تمولها أمريكا تفعل ذلك، فعليه أن يحمى مواطنيه وإلا فعليه أن يعلن فشله ويرحل.

دبة النملة -4

راح هاشم يتكلم وأنا شارد الذهن أفكر بعمق فيما وجدته. خطر لي نوع من الهاجس الذي لا يستند إلى أساس علمي أن عينيه تلمعان أكثر من اللازم.. ربما هما تضيئان

خطر لي هاجس أن عيني هاشم تلمعان أكثر من اللازم ـ (رسوم: فواز) ـ

ماذا يحدث هنا بالضبط؟
كان ما لمسته وتهشم تحت قدمي هو عظام.. عظام حيوان أو طائر صغير، ويبدو من ملمسها أنها هنا منذ زمن سحيق. هناك كمية هائلة منها

ما معنى هذا؟ هاشم يعيش في هذا الوكر ولا يتخلص من بقايا طعامه. سمعت أن أمورا كهذه تصيب مرضى السكيزوفرنيا أو في حالات خرف الشيخوخة. المريض لا يدرك أنه يعيش في وكر قذر. عاداته تسوء مع الوقت وهو لا يدرك الانحدار الذي يهبط له.. وفي لحظة هو مجنون ناري النظرات منكوش الشعر يلبس الأسمال ويقف في زقاق خلفي يتسول، ومن حين لآخر يحك رأسه بسبب القمل

الحقيقة أنني راغب في الرحيل بالتأكيد.. لا أحب هذا الجو
هل جن هاشم لأنه استرد بصره فلم يتحمل هذا الانفعال؟ أم هذا أثر جانبي لعلاج الأرمني اللعين؟

لا أعرف متى وجدت هاشم يمسك بعلبة من الورق المقوّى يشرب محتواها بقشة شفاط.. أعرف منظر هذه العلبة ولونها..هذا لبن .. قدم لي المياه الغازية وراح يشرب اللبن
برررررر
من أين يأتي هذا القرير؟ هل هناك محرك سيارة يدور في الجوار؟ لماذا تلمع عيناك يا هاشم بهذا الشكل؟

قال هاشم وهو مستمر في الامتصاص:ـ
ـ أحيانا يكون علينا أن نتخذ قرارا عسيرا.. قرارا يغير حياتنا بالكامل.. لكن هناك متعة خاصة في الاستسلام. أن تقبل أن تكون ما يراد منك أن تكونه. أنت تعرف أن هناك نساء لا يعشقن سوى الرجل الفظ الذي يقهرهن قهرا.. هذا هو ما حدث معي تقريبا

كان ردي الوحيد والبسيط هو: لا أفهم.. هل هناك في حياته شخص يرغمه؟
بررررر! هذا غريب.. الصوت يصدر منه فعلا.. لا شك في هذا.. تأملت جسده الضخم المنحني في الظلام وشعره المنتفش.. تأملت عينيه اللتين تلمعان في الظلام؛ بدا لي غريبا فعلا

لقد حان وقت إنهاء هذه الجلسة.. أنا الآن أعرف أن العلاج فعّال جدا.. فعّال أكثر من اللازم لكنه كذلك يسبب غرابة الأطوار.. حان الوقت كي أزور صديقا آخر هو شاكر.. أريد أن أعرف أخبار العلاج الذي تلقاه

طبعا يصعب الاعتقاد أن العلاج كان ذا جدوى معه.. الأمل والألم.. هو تكلم عنهما معا.. لماذا لم ألحظ من قبل أن اللفظين يحملان ذات الحروف؟ ربما هناك لفظ ثالث كذلك هو المال.. نقص المال يسبب لك ألما.. لكن الأمل الذي يخيب يسبب لك ألما لا يوصف

طرقت الباب مرارا.. كان موعدا سخيفا يناسب ضيفا سمجا وقحا مثلي
فتحت لي زوجته مها الباب.. أعرف مها منذ زمن ولم أرها من قبل شاحبة متوترة بهذا الشكل. تأمل لون الصفحة لتأخذ فكرة عن لون وجهها

دعتني للداخل وقالت إنها ستنادي زوجها حالا.. سألتها عن نورا العزيزة الصغيرة، فقالت بلهجة غامضة:ـ
ـ نورا عند جدتها الآن.. لا تسأل عنها كثيرا
طلب مريب فعلا.. ابتلعت ريقي وسألتها عن شاكر.. ما أخبار معنوياته؟
قالت في ارتباك:ـ
ـ يتحسن. لا شك في هذا

في هذه اللحظة دخل شاكر الغرفة. فتح ذراعيه مرحّبا بي.. وعندما غبت في حضنه أدركت شيئا مرعبا: هناك يدان تحيطان بي! تراجعت للخلف ونظرت
بالتأكيد لست أحلم.. عند كم سترته رأيت يدا صغيرة مشوّهة.. ليست جميلة المنظر وهي مغطاة بحراشف ولونها برتقالي مقزز.. لكنها يد! أضف لهذا أن يده السليمة لم تكن جميلة المنظر كذلك
تراجعت للخلف مذهولا فقال وقد رأى نظرتي:ـ
ـ هذه يد حقيقية.. ليست صناعية.. طبيبك هذا كان عبقريا فعلا.. إن يدي تنمو.. أعتقد أن شكلها سيتحسّن مع الوقت

كنت أزداد رعبا.. رباه! الأمر لا يتم هكذا.. مستحيل أن يتم هكذا.. هذا كابوس
قالت مها في ارتباك إنها ستعد لنا بعض الشراب، فقال شاكر إنه سيفعل ذلك.. طلب منها أن تنصرف لأن بيننا الكثير من الكلام

عندما انصرفت وهي ترتجف، قال شاكر:ـ
ـ هي ما زالت مرتبكة متهيبة. المرء يخاف ما لم يعتده وأنا شيء غير معتاد. بيني وبينك لم أتوقع هذا الذي حدث قط.. العلاج فعّال بلا شك

قلت في ذهول:ـ
ـ نحن لا نتكلم عن علاج فعّال.. نتكلم عن معجزة تغير وجه الطب للأبد

نهض مسرعا إلى المطبخ، وظللت وحدي في الصالون أرمق الجدران مفكرا. لا يوجد أثر جانبي على قدر علمي.. هناك ذعر الزوجة وحيرتها لكن هذه ليست نهاية العالم. ما حدث هو معجزة بكل المقاييس.. حتى أعتى السحرة لم يستطيعوا إعادة طرف مبتور

سمعت صوتا غريبا من المطبخ.. كأن هناك من يقبّل خدا بصوت عالٍ مزعج
شعرت بقلق.. الزوجة ليست هنا. نهضت في حذر نحو ما أعتقد أنه المطبخ وألقيت نظرة. هناك براد شاي على النار. هناك منضدة في منتصف المكان. فوق المنضدة طبق به شيء أعتقد أنه ملح.. أما المشهد العجيب فهو مشهد شاكر وهو راكع على ركبتيه إلى جوار المنضدة وقد مد لسانه.. لسان طويل جدا يلعق به الملح في الطبق

تراجعت للخلف لأحبس صرخة هلع كادت تنطلق مني، وقفت بضع دقائق أشهق محاولا أن أستعيد تنفسي

محمود.. هل تسجل كل شيء؟ سوف أحذف هذا الجزء أو أغير الأسماء حتى لا أؤذي الزوجة. يصعب بعض الشيء أن نقول عن زوجة محترمة إن زوجها يلعق الملح في المطبخ

عدت في حذر ألقي نظرة على المطبخ عبر الباب. لم أر سوى الموقد والشاي عليه. أين شاكر؟
لسبب ما رفعت رأسي لأعلى وكان المشهد كافيا كي يتوقف قلبي للحظات.. كان شاكر يتشبث بالجدار قرب السقف ووجهه له وقد فتح ذراعيه. ثبت كفيه للجدار كأن لهما ممصات وكان يتحرك بسلاسة غير عادية

كان شاكر يتشبث بالجدار قرب السقف وقد فتح ذراعيه ـ (رسوم: فواز) ـ

ثمة شيء مألوف في هذا
هل فهمت يا محمود؟ يلعق الملح ويمشي على الجدران؟ هذا سلوك وَزَغَة بُرص بلا شك.. صديقي قد تحول إلى بُرص آدمي عملاق

هل فهمت؟ الأمر واضح. كي يستعيد اليد التي فقدها، حوّله الطبيب الأرمني المجنون إلى بُرص.. رأيت فيلما شنيعا في "ناشونال جيوجرافيك" لقدم بُرص مبتورة تنمو وتتحول مع الوقت لقدم سليمة كاملة. هذا هو ما خطر للطبيب الأرمني

وماذا عن هاشم؟ الآن يمكنني الفهم.. يقر وهو يشرب اللبن ويلتهم حيوانات صغيرة -فئران على الأرجح- وعيناه مضيئتان.. إنه يتحول إلى قط.. هذه هي الطريقة المثلى كي يكتسب عيني القط ويبصر جيدا.. بل يبصر في الظلام كذلك

قفّ شعر رأسي.. قفّ كما هو منتصب الآن.. هات المزيد من الماء البارد.. أتناول معه قرصا من "الديازيبام" لكني مضطر لزيادة الجرعة يوما بعد يوم، سوف أتحول لمدمن قريبا جدا
أنت كذلك بدأت تتوتر
لم يبدأ المرح بعد.. ماذا لو حكيت لك عن اللحظة التي استدار فيها عنق شاكر ورأيته ينظر لي من وضعه المقلوب؟ لقد أدرك أنني فضحت سره


                                                            يُتبع

دبة النملة -3


يمكنك أن تتخيل تعبير وجه شاكر عندما أخبرته بهذا الاقتراح
تصور هذا سهل على كل حال.. نحن لا نتحدث عن حاسة تُفقد أو قدرة تضيع.. نحن نتحدث عن طرف طار.. تمزق.. ذهب به نصل


المسكين
قال لي في أسى:ـ
ـ لقد انتهى زمن المعجزات.. أنا لا أفهم في الطب لكن ثق بأنني لن أحمل جثة مزقها القطار إلى عيادة طبيب
نظرت ليده المبتورة الملفوفة في الضمادات ثم قلت:ـ
ـ عدني بشيء.. أنا مخبول غير مستقر نفسيا.. اتفقنا؟
ـ أنت لست كذلك
ـ بل أنا مخبول من الطراز الذي يجري في الشوارع وكسرولة على رأسه.. اللعاب يسيل من فمه.. هذا المخبول لا يريد سوى شيء واحد هو أن تذهب لهذا الطبيب
ـ هذا مطلب عسير.. أنت تداعبني دعابة قاسية اسمها الأمل.. هذه الدعابة لن تفضي بي سوى لمزيد من الألم

كان إلحاحي شديدا.. وقد استطعت بالفعل أن أقنعه بأن يجرب
عرفت فيما بعد أنه ذهب هناك مع زوجته مها.. كانت مها مستعدة لتجربة أي شيء. لا بد أن هناك أعشابا صينية تعيد الأيدي المبتورة. لا بد أن هناك طريقة ما تعيد حياتها لما كانت.. تعيد البسمة لزوجها

وكما هي العادة قابل الطبيب الأرمني وكان نفس الانطباع وكانت ذات المحادثة... ثم وقّع على الورقة بيده السليمة وهو يكتم ضحكة ساخرة. هذا الرجل نصّاب بلا شك.. لكن الدفع سيكون بعد الشفاء طبعا.. لن تكون الخدعة قاتلة.. لن يسلبه شيئا سوى الأمل. لقد تغير الزمن كثيرا يا شاكر.. صاروا يسخرون منك، وصرت أنت كمّا مهملا.. لكنك تسخر منهم إذ تتظاهر بأنك تصدقهم
عاد إلى البيت وأعتقد أنه ازداد سوءا على الأقل من الناحية المعنوية


***

أنت تسجل كل شيء يا محمود.. أليس كذلك؟ تصور أنني أتذكر بعض التفاصيل التي نسيتها تماما.. الكلام يرغمك على ترتيب أفكارك

فعلا
أذكر كيف أمضيت أياما عدة لا أعرف شيئا عما حدث في هذه القصة.. اتصلت برامز عدة مرات، فكان يؤكد أن سمعه ممتاز لكن بصره كما هو

 أما عن شاكر فلم يكن هناك أي تطور في حالته

جاء اليوم الذي اتصل بي رامز فيه ليقول إنه فهم الخدعة الكامنة في العلاج الذي تلقاه.. هناك أثر جانبي واضح. وما هذا الأثر الجانبي يا ترى؟ هل فشل الكبد أم ارتفع ضغط الدم؟
ـ السمع صار حادا جدا.. فعلا يمكنني سماع الفئران وهي تتحرك في "المسقط" عند الجيران، ويمكنني سماع دقات قلب زوجتي وهي نائمة

هذا فقط؟ ابتسمت وقلت:ـ
ـ هذا عرض لا يخلو من الهستيريا.. أنت تعرف الهستيريين الذين يشكون دوما من صوت التنفس العالي لمن يجلسون قربهم
ـ "بيريجيب"ـ
قالها في ثقة ثم راح يفسر لي:ـ
ـ في الروسية معناها محاولة تقويم العصا المعدنية مما يثنيها للجهة الأخرى.. يبدو أنه بالغ في العلاج

استمعت له بنصف انتباه ونصف اهتمام.. لا أصدق أن يكون هناك شيء اسمه شفاء أكثر من اللازم.. هذه تبدو لي شكوى مترفة جدا. سألته بعدها:ـ
ـ هل دفعت أجرة؟
ـ بالطبع.. لقد قام بالاتفاق وأعاد لي سمعي.. سمعي يعني حياتي
ـ لكنك كفيف حسب ما فهمت.. لم يتغير شيء
ـ قلت لك إن أذني هي حياتي.. لو كنت رساما لكانت هذه قضيتي الأولى

بالطبع يا محمود لم أستطع أن أصدق كل شيء.. ثمة احتمال لا بأس به أن يكون الشفاء جاء بالصدفة. لو كان هذا الطبيب يعرف عمله حقا لشفي بصر رامز كذلك، خصوصا أن عندنا سابقة مهمة مع هاشم.. أعتقد أنه مجرد نصاب بارع حسن الحظ

كانت الأسئلة تملأ ذهني
في المدرسة رحت أراقب الصبية وهم يمارسون تمريناتهم الرياضية.. ويركضون حول الفناء. كم أن الإنسان رائع ومعجزة في الخلق

تتضافر الحواس والقدرات والعضلات والأعصاب لتصنع سيمفونية بالغة الإتقان.. سيمفونية أجمل ما فيها أنك لا تشعر بها.. فقط عندما يتلف شيء ندرك أي نعمة كنا فيها

قررت أن أزور هاشم هذه الليلة بالذات.. هل صار يبصر أكثر من اللازم؟ هل صار يرى أشخاصا ليسوا هنالك أو غير موجودين أصلا؟


***

ظللت أدق الباب عدة مرات بلا جدوى
أنا أعرف أنه متزوج ولديه طفل. فماذا حدث؟

واصلت الدق في عناد، وكان هذا حلا موفقا لأنه كما يبدو كان ينتظر أن يرحل هذا الفضولي السمج.. سمعت صوته الغليظ من وراء الباب يصيح:ـ
ـ ماذا تريد؟

أعلنت من أنا بصوت أقرب للتوسل.. فأبدى دهشته من قدومي. لم يبد ودودا على الإطلاق. ثم انفتح الباب
ـ ماذا أتى بك في هذه الساعة؟
قلت في حرج:ـ
ـ ظننت أن...ـ
ـ مرحبا بك بالتأكيد لكنني كنت أنتظر موعدا مسبقا
وسمح لي بدخول الشقة.. ظلام دامس تقريبا.. لا توجد سوى مصابيح خافتة مما نطلق عليه اسم  "وناسة"ـ



لا أرى شيئا تقريبا.. هناك رائحة كريهة فعلا.. هذا بيت لا ينظف ولا يحمل آثار لمسات الأنثى
قلت له وأنا أتحسس طريقي:ـ
ـ كيف حال المدام؟
قال ما توقعت أن يقوله:ـ
ـ أنا مطلق.. زوجتي لم تتحمل أن تعاني معي

لذت بالصمت.. هذا شيء قاس فعلا..  الزوجة رحلت بمجرد أن فقد زوجها بصره.. ليست الفارسة المناضلة التي يريد لها العالم أن تكون

وعلى كل حال لا يمكن أن ألوم أحدا قبل أن يختبر المرء نفسه..هناك أزواج طلقوا زوجاتهم لأنهن أصبن بسرطان واستأصلن جزءا من أنوثتهن

لكنني الآن أدرك أن حياة هاشم قاسية فعلا.. ألا توجد عاملة تعني بهذا البيت؟
ـ لقد أرسلت صديقي للدكتور الأرمني كما اقترحت أنت.. النتائج جيدة فعلا.. لكنه يشكو من آثار جانبية
ـ كنت أعرف أنه سيشفى.. وكنت أعرف أن آثارا جانبية ستحدث

اصطدمت بأريكة فجلست عليها بينما جاء هو بزجاجة مياه غازية من مكان ما.. كيف يرى في هذا الظلام الدامس؟ لقد شفي جدا بالتأكيد

شعرت بشيء يتهشم تحت قدمي  فنظرت.. الظلام دامس فلا أرى جيدا.. لكن هناك حاسة تقدير الأشياء التي تجعلك تخمن ما يوجد تحت قدمك

مددت يدي وتحسست.. بالفعل كما توقعت
إن صديقي هاشم يعيش حياة قذرة فعلا


                                                            يُتبع


دبة النملة -2

كان جالسا في تلك الغرفة خافتة الإضاءة، وعلى عينيه ضمادات.. دخلت نورهان حاملة صحفة عليها مشروب بارد وجلست جوارنا ترمق زوجها في جلسته المتصلبة

بدا لي الأمر كأنه مر بجراحة معينة.. وانتظرت حتى يحكي لي ما حدث

كان ما زال قادرا على السمع لكن عليك أن تصيح بصوت جهير، وكان يتكلم بنبرة عالية كذلك لأنه لا يدرك مدى ارتفاع صوته

قال لي:ـ
ـ بالطبع لم أستطع رؤية ما يحدث جيدا.. كنت أرى بعض الأشباح، وعرفت أنها شقة في بناية شامخة في وسط البلد.. بناية ذات مصعد يتعطل أكثر الوقت. الشقة كانت نظيفة ورائحة المطهرات تملؤها لكنها قديمة. أما الرجل فكان له صوت عميق مريح كأنه أريكة تضع عليها توترك الخاص. لا توجد أي لكنة غربية في كلامه.. تشعر أنه مصري ابن مصري

كان كلام دكتور ويليام لا توجد به أي لكنة غربية ـ (رسوم: فواز) ـ

قال لي إنه يمارس ضربا غير تقليدي من العلاج، وهذا العلاج يتلخص في حقني بمجموعة من الحقن التي تحوي خلاصة خلوية.. أما عن محتوى هذه الحقن فهنا يكمن سر العلاج.. لا أسئلة من فضلك. لا يمكن إفشاء السر، ولو كنت مصرا فبوسعي دائما أن أنسحب. لن يخبرني... باختصار "ما بين البائع والمشتري يفتح الله"ـ

وافقت طبعا.. وقلت لنفسي إنني لن أخسر شيئا.. و"ضربوا الأعور على عينه قال خربانة خربانة".. هذا المثل ينطبق على حالتي حرفيا

لا أعرف متى وضع ورقة تحت يدي وقلما في يدي فسألته عما هنالك، فقال:ـ
ـ هذا
Consent
موافقتك على استخدام العلاج
وقّعت.. ولا أدري متى ولا كيف كشفوا عن ساعدي ولا كيف اخترقت إبرة أوردتي، ثم شعرت بسائل بارد يسري هناك.. وهكذا انتهت الجلسة وعرفت أن هناك ثلاث جلسات أخرى

نظرت إلى نورهان التي راحت ترمق زوجها في قلق حنون، وسألتها:ـ
ـ ما انطباعك عن الأمر كله؟ نصب؟
رفعتُ الشعر عن عينها فرأيت دمعة متحجرة هناك. وقالت:ـ
ـ أعتقد أنه صادق.. الجو يوحي بالاحترام والثقة
ـ والنتائج؟

قال رامز وهو محتفظ بجلسته المتصلبة:ـ
ـ بالنسبة للعينين لا تحسن.. الأمر يزداد سوءا.. بالنسبة للسمع هناك تحسن طفيف
قلت بصوت خافت:ـ
ـ طفيف؟
ـ نعم طفيف

تبادلت نظرة جانبية باسمة مع نورهان.. لقد سمع هذا السؤال الخافت برغم كل شيء.. ما زلنا في مرحلة رمادية.. لا يمكن أن تُقسم أن سمعه يسوء أم يتحسّن لكن هناك علامات

عندما فارقته تمنيت أن يكون في الطريق الصحيح

***

القصة كما ترى يا محمود ليس فيها شيء مريب أو غير طبيعي.. مريض طلب الشفاء ولعله وفق أو لم يوفق. ليس الأمر خطرا. ليس ذلك بالشيء الذي يثير الهلع

على كل حال في ذلك الوقت لم أكن أعرف أن المهندس شاكر يصلح آلة التقطيع في المصنع

المهندس شاكر في الأربعين من عمره، وهو رجل ذكي مرموق.. جوار عمله في المصنع، لديه ورشة سيارات خاصة عانى كثيرا حتى أنشأها، وجاهد حتى يكسب ثقة العملاء. يعتمد على نفسه كثيرا ولا يترك الأمور للعمال، لهذا وثق به زبائنه.. شاكر صديق قديم لي وإن كنا نلتقي لماما

يفكر شاكر الآن في مها زوجته وفي هدية عيد ميلادها التي تنتظر في حقيبة السيارة.. يفكر في ابنته نورا الرقيقة ابنة السنوات العشر.. يفكر في الورشة وفي الشريك الجديد. سوف يذهب هناك بعد انتهاء ورديته في المصنع ليتناول غداء خفيفا ثم يعمل حتى ساعة متأخرة من الليل

كانت آلة التقطيع معطّلة وقد جاء رئيس الميكانيكية يخبره بذلك. قام بفصل السكينة وجلس محتبيا ليعالج النصل ومجموعة التروس. مها كانت مكتئبة أمس ولا يعرف السبب.. هل هناك شيء ضايقها؟ كانت هناك مكالمة مع أخته.. هل حدث شيء بينهما في ذلك الوقت

و...ـ

لا يعرف ما حدث.. هناك مجنون ما في كل مكان.. هناك حمار ما في كل مصنع.. حمار من الطراز الذي يجد سكّينة الكهرباء في وضع فصل التيار فيعيدها لمكانها وهو مندهش

تدور الآلة. يهوي النصل

لا يوجد ألم.. الصدمة العصبية رحيمة وتجعله ذاهلا في عالم آخر. لا يعرف سوى أنهم يصرخون وأنهم يحملونه، وأن سائلا دافئا يبلل الأرض.. سيارة إسعاف من الداخل.. كشافات.. أرجل تركض على بلاط المستشفى
ثم الظلام

الضوء يتسلل ببطء. شاكر يفيق وشعور بالغثيان يغمره.. ينهض والعرق يبلله بالكامل
إنه في فراش مستشفى.. لا شك في هذا. الأبيض اللعين الذي وصفه أمل دنقل، والذي هو لون الموت ذاته. ينهض.. هو في مستشفى. لا يذكر أي شيء سوى أنه كان يصلح الآلة.. ثم حدث شيء ما.. حدث شيء هو..؟

هناك من شغل الآلة
حمار ما قام بتشغيل الآلة
ماذا حدث وقتها؟ رفع ساعده الأيمن ببطء.. وعندها أدرك الحقيقة.. لم يعد لديه يد.. هناك ضمادة قبيحة لا يمكن أن تخفي يدا تحتها.. بل عندها يبدأ الأمر وينتهي

رفع شاكر ساعده ببطء وتأمل الضمادة ـ (رسوم: فواز) ـ

منذ ساعات كان رجلا مكتمل الجسد يفكر في هدية ميلاد زوجته.. الآن هو أكتع.. أكتع
لا بد أنه فقد الوعي في هذا الوقت

***

عندما قابلته -بناء على كلمات صديق أخبرني بالفاجعة- كان قد تغير جدا
كان جالسا هناك في مقعد في شرفة المستشفى وهو يتأمل الضمادة التي كانت يده
حاولت أن أمازحه لكن مزاجه كان متعكرا

قال لي إن مستقبله انتهى.. صحيح أن المهندس لا يجب أن يعمل بيده، لكنه اعتاد ذلك.. دعك من ورشة السيارات التي علق عليها كل آماله.. إنه رسام بلا يد

شعرت بأسى شديد.. ما أكثر النحس الذي يمر برفاقي.. إما أن دوري في هذه المصائب قادم وإما أنا الذي أسبب لهم النحس

سألته:ـ
ـ هل هناك وسيلة تعويضية ما؟
ابتسم في تعب وقال:ـ
ـ مستحيل.. اليد عضو شديد التعقيد.. يجب أن أتأقلم.. هذا هو الحل
غادرته وأنا أشعر بالتعاسة والأسى

***

اتصلت برامز لأطمئن على أموره فرد عليّ في مرح

شعرت بسرور بالغ.. كان صوتي خفيضا ولم أكن أصرخ في الهاتف لكن بدا أنه يسمعني جيدا. كنت أسمع في الخلفية صوت دوزنة أوتار كمان.. من الواضح أنه يكلمني وهو يداعب أوتار الكمان. علامة صحية أخرى

ـ هذا يعني أن علاج الأرمني ناجح فعلا
ـ هذا واضح.. لكن بصري يزداد سوءا.. هذه نقطة لا أنكرها

هنا حكيت له عن شاكر زميل دراستنا.. كانت قصة مؤسفة مؤسّية وبدا لي أنه من المستحيل أن يساعده أحد.. هنا قال لي في لهفة:ـ
ـ بالعكس.. لقد ذهبت للطبيب الأرمني مرة أخرى وقالت لي زوجتي إن هناك مرضى مبتوري الأقدام ينتظرون الفحص

هنا يبدأ التخريف إذن.. قلت في عصبية:ـ
ـ الأمر لا يتعلق بمرض عصبي.. هناك أطراف طارت.. لم تعد هناك
ـ أنا أعرف ما أقول

ثم أضاف بلهجة تقريرية:ـ
ـ دع شاكر يزور هذا الطبيب الأرمني.. هو لن يخسر شيئا.. وأنا أعدك أن هناك معجزة في الطريق

                          
                                                                يُتبع


سؤال البطولة


 سوف أقدم لك خدمة عظيمة؛ هى أن أكف عن الكلام عن السياسة من الآن فصاعدًا، وهو قرار اتخذته عدة مرات لكن الكلمات كانت تحتشد حتى لأوشك على الانفجار وأضطر إلى العودة لحقل الألغام فى كل مرة. لقد تغيرت أشياء كثيرة فى مصر بالفعل، وصار التطرف هو الأساس، سواء كان تطرفًا دينيًا او ليبراليًا، وصار الاعتدال جريمة شنعاء. بصراحة الشعب المصرى صار شعبًا عنيفًا دمويًا لكنه مصر على أنه مسالم. أعتقد اننا نعيش ذات أجواء مباراة الجزائر القديمة لكن على نطاق واسع، وبعد أعوام عرف الجميع انهم كانوا ذبابًا فى شبكة عنكبوت عملاق يحركهم كما يشاء..
كنت ألوم نفسى دومًا عندما أصمت حيث لا ينبغى الصمت، وأتهم نفسى بالجبن.. على طريقة: « إن لم يكن الآن فمتي؟.. وإن لم يكن أنا فمن؟». كنت ككاتب تعرف أنك تواجه السلطة الغاشمة لكن القارئ فى صفك وأن من حقه عليك أن تتكلم. الوضع اليوم فريد هو أن القارئ هو غالبًا من يريدك أن تقول ما يريد فقط أو تصمت. على كل حال هذا بلدكم يا سيدى فافعلوا وقولوا ما تشاءون..
مقال اليوم عن سنودن، وهو مقال يتكلم عن سنودن فعلاً بلا أى إسقاطات من أى نوع...
وصلنى منذ أيام خطاب من صديقة عزيزة تدعونى فيه للتضامن مع سنودن الشاب الأمريكى حديث الساعة. يقول الخطاب: «هذا الشاب البالغ من العمر ٢٩ عاماً، تخلّى لتوه عن حياته بأكملها! -- حبيبته وعلمه ومنزله -- كى يفضح للعلن برنامج الحكومة الأمريكية الصادم PRISM -- والذى كان يقرأ ويسجل بريدنا الالكترونى ورسائلنا على سكايب والفيسبوك ومحادثاتنا الهاتفية لسنوات. إذا تحركنا بسرعة، من الممكن أن نفعل ما هو أفضل مع إدوارد، ونساعده بالانتصار بالمعركة التى خاضها بشجاعة من أجلنا جميعاً».
أعتقد انك تعرف كل شيء عن سنودن الآن.. إدوارد سنودن شاب امريكى فى الثلاثين من عمره. عميل لدى المخابرات المركزية الأمريكية. بعد فترة طويلة من العمل قام بتسريب تفاصيل برنامج بريزم هذا إلى جريدة الجارديان وواشنطن بوست وفر إلى هونج كونج. هكذا اتهمته الحكومة الأمريكية بالتجسس وطلبت تسليمه لها لكنه فر إلى روسيا..
هناك استقر فى الترانزيت بالمطار فى مشهد يذكرنا بفيلم Terminal فيلم توم هانكس الشهير.. أو فيلم الحدود للعبقرى دريد لحام. العالم كله يقابله هناك لكن الحكومة الروسية لا تسمح له بالدخول. قال إنه راغب فى الفرار إلى الاكوادور وبذلت الحكومة الأمريكية جهدًا كبيرًا لاستعادته. وسبب سنودن أزمة دبلوماسية كبرى بين روسيا والولايات المتحدة.
كتبت لهذه الصديقة إن الأخ سنودن هو آخر موضوع أهتم به حاليًا بينما نصف الشعب المصرى يريد ذبح النصف الآخر. هذه مشاكل مترفة جدًا بالنسبة لى، دعك من اننى واثق من أن عشر جهات على الأقل تراقب حاليًا بريدنا الالكترونى ومحادثاتنا الهاتفية فى مصر... ما جتش على المخابرات المركزية.. لكن هناك نقطة أخرى لا أستطيع ان أتخلى عن التفكير بها: لقد أفشى هذا الرجل أدق أسرار بلده لحكومات أخرى وللصحف.. على المستوى العالمى الكونى هذا عمل بطولى يخدم البشرية والحرية، لكن ماذا عن المستوى المحلى الضيق؟ أليس معنى هذا ان سنودن جاسوس وان من حق الحكومة الأمريكية ان تنكل به فعلاً؟. تخيل معى أن يذهب ضابط مصرى إلى أمريكا ليخبرهم بأسرار برنامج صواريخ مصرى مثلاً.. سوف يكتبون عنه باعتباره بطل الأبطال وسوف يظهر على غلاف مجلة تايمز مرارًا.. لكن هل نستطيع نحن أن نعتبره أى شيء سوى خائن؟
من ضمن هؤلاء الأبطال الذين يثيرون التساؤل موردخاى فعنونو.. خبير نووى اسرائيلى من أصل مغربى وذو ميول يسارية واضحة. عمل فى مفاعل ديمونه النووى الرهيب.. ثم أنه ارتحل إلى أستراليا عام 1986 حيث قابل صحفيًا شهيرًا وحكى له عن اسرار المفاعل، وعرض عليه مجموعة صور تدل على امتلاك اسرائيل للقنبلة النووية. بل إن الخبراء النوويين اكتشفوا من الصور أن لدى إسرائيل ترسانة قوية جدًا تقدر بـ 200 رأس نووى.. كالعادة اختطفته اسرائيل من الخارج ونقلته إلى داخل البلاد لعقابه.. كان مولعًا بالنساء وهكذا دسوا له امرأة حسناء استطاعت أن تدير رأسه وتخدره. وفى إسرائيل عوقب بالسجن لمدة 18 عامًَا. وقد غادر السجن عام 2004 ليعيش فى تل أبيب تحت قيود مرعبة.. بصعوبة يسمحون له بالتنفس. وقد نال عددًا لا حصر له من الميداليات واعتبره الكثيرون بطلاً عالميًا ورشحوه لجائزة نوبل للسلام. هذا رجل شجاع فعلاً لكن لو أنك إسرائيلى فكيف ستنظر له؟.. بالنسبة لنا كمصريين هو بطل طبعًا.. لكنى سأقدم لك مثالاً آخر: يحكى هيكل فى كتابه عن حرب الخليج عن البرنامج النووى العراقى الذى ظل لغزًا بعد حرب الخليج الثانية، وهنا - عند الحدود التركية مع العراق – كان اللاجئون العراقيون يتقدمون، فبرز رجل فى الأربعين طلب مقابلة ضابط أمن أمريكى. سرعان ما جلبوا ضابط مخابرات أمريكيًا ليقابل الرجل، وبعد حديث دام ربع ساعة فطن الامريكى إلى انه وقع على كنز. الرجل الهارب عالم عراقى يعمل فى مؤسسة الطاقة النووية وقد أثبت شخصيته، وكان شرط العالم واضحًا: الهجرة له وأسرته إلى الولايات المتحدة. وصل لموقع الحدود خبير نووى أمريكى أعاد استجواب الرجل , وكان أقدر واحد على معرفة قيمة هذه المعلومات. هكذا تم نقل العالم فى اليوم التالى لواشنطن حيث قاموا باعتصاره كالليمونة لمعرفة ما لديه من أسرار. وسرعان ما وصلت إلى بغداد بعثة من الأمم المتحدة تعرف ما تبحث عنه بالضبط.. تتجه إلى وزارة العمل العراقية لتفتش عن ملفات العلماء فى البرنامج النووى. كان هذا طبعًا عندما كان البرنامج النووى العراقى منتعشًا.. أمريكا تعرف قبل أى واحد آخر انها دمرته تمامًا، وفيما بعد قال البرادعى نفس الشيء الذى تعرفه أمريكا: «لم يعد هناك برنامج نووى عراقي». وهو ما حوره كارهو البرادعى للعكس تمامًا على الطريقة العكاشية كما تعرف. بالنسبة لأمريكا يعتبر هذا العالم العراقى بطلاً... لكن ما رأيك أنت؟. هل هو خائن سلم أدق أسرار بلده للغرب؟.. لو كنت ترى أن الإجابة نعم فلماذا تدافع عن سنودن؟
من الممكن أن يزعم العالم أنه يعمل لمصلحة وطنه البعيدة التى خمنها بفكره الثاقب. الضباط الذين انقلبوا على هتلر فى مؤامرة الجنرالات كانوا يرون ذلك. لكن هذا يجعل أمورًا كثيرة خاضعة للتفسير الشخصى. أنت تعرف موضوع (منظمة السلام العالمي) التى كانت حجة كل جاسوس مصرى يتم القبض عليه.
هذه مسألة منطقية مربكة فى رأيى.. فقط أعرف شيئًا واحدًا: أنا لن أطلب الإفراج عن سنودن هذا أبدًا...
جميع الحقوق محفوظة|موقع د.أحمد خالد توفيق يتحدث|eng.Mohammad Adam