الكفن بلاجيوب


يتمتع الناس بدرجة عالية من الجشع سوف تثير ذهولهم، لو أدركوا حجمها الحقيقي. لكنهم كذلك لا يكفون عن الكلام عن الزهد والرضا بما قسمه لهم الله. إن الكفن بلا جيوب والفقير والغني لجثتيهما ذات رائحة العفن..الخ ..
كنت واقفاً عند الصراف آخذ راتبي، عندما دخل المكان زميل عمل يكبرني بعشرة أعوام، وراح يوقع على كشف الرواتب في اشمئزاز وهو يردد:
ـ«مال حرام كله.. والله لم نعمل بربع هذا المبلغ»!
نظر له الصراف في دهشة وإكبار، وقال إنه لم يسمع قط موظفاً يدلي بهذا الاعتراف الخطير.. لكن زميل العمل واصل الاشمئزاز الزاهد: ـ«كله مال حرام لا نستحقه»!
الجديد هو أنه كان يقول هذا وهو يعد الأوراق المالية بدقة بالغة، ثم قال في صرامة:
»هناك خمسة جنيهات ناقصة»!ناوله الصراف الورقة الناقصة، فتفحصها بعناية ثم أعلن أنها تالفة، ويريد أن يستبدلها بورقة سليمة. هكذا أدركت انه رجل زاهد متعفف عن متاع العالم، لكنه كذلك لا يريد لأحد أن يخدعه. بالطبع سوف يصرخ في وجه أول متسول يقابله في الشارع لأنه يمقت أن يخدعه أحد.
قراءة الإعلانات تكشف لك أسوأ ما في النفس البشرية، فالرجل يريد أن يبيع جهاز تلفزيون عتيق بنفس سعر الجديد لا لسبب سوى أنه يحب نفسه بجنون. وفي أحد إعلانات الزواج قرأت نداء ملهوفاً من امرأة مطلقة: «أريد رجلاً يتزوجني وينفق علي أنا وابني ويبتاع لي شقة فاخرة!...أرجوكم»... الإعلان لا يتضمن أي وعد ولا أي تلميح عن مسرات خارقة للعادة تنتظر هذا الملاك الذي سيبتاع لها شقة وينفق عليها هي وابنها. ولو قالت إنها مارلين مونرو لظل الموضوع غريباً، فلأنها تحب نفسها بجنون لا تريد عريساً بل تريد شهيداً.. تريد بابا نويل يحقق لها كل شيء ولا ينال شيئاً..
أما عن موضوع العقارات فكارثة أخرى.. لدي قطعة أرض صغيرة ارتفع ثمنها.. النتيجة هي أنني أحجمت عن البيع لأن كل العارفين قالوا لي إنني سأكون أحمق لو بعتها.. سوف يرتفع السعر أكثر فأكثر .. هكذا انتظرت .. وهكذا تحملت فترات شديدة القسوة وعسرًا مادياً بالغاً لأن من الخسارة أن أبدد هذه القطعة..
عندما بحثت حولي وجدت كل الناس أو معظمهم يعانون هذه المشكلة. يجد الرجل أنه مفلسا تماماً وأن ما يملكه من مال موضوع كله في هذه الشقة أو قطعة الأرض تلك.. لا أحد ينعم بما يملكه أبدًا إنما الجميع ينتظرون فرصة أفضل، مذعورين قلقين.. وقد زرت صديقاً لي يمتلك أرضاً في مساحة مدينة القاهرة ذاتها، فوجدت أثاث البيت مهشماً، والسجادة مثقوبة، فلما جاء وقت الغداء قدم لي كمية شحيحة جداً، وقال آسف:
ـ«معذرة.. الحقيقة هي أنني لا أملك مليماً، ونحن في ضائقة مالية مزمنة»!
أفهم مشكلته تماماً.. لا يجرؤ أبداً على بيع الأرض لأن سعرها سيرتفع .. لديه فكرة مبهمة عن يوم يبيع فيه ويصير فيه ثرياً وينعم بما ادخره، لكن هذا اليوم لا يأتي أبداً.. لقد صار مكبلاً بالجشع ولن يتحرر أبداً إلا في القبر. بمعنى آخر لن ينتفع بهذا المال سوى الورثة الذين أرجو ألا ينتظروا ارتفاع الأسعار بدورهم.. في قصة بمجلة ميكي يقول العم الثري (بيسكو) أو (دهب) كما نعرفه نحن: يوماً ما سأنعم بكل هذا المال، وسوف أعوض كل أكواب الآيس كريم التي حرمت نفسي منها طيلة حياتي..
في قصص ألف ليلة يجد السندباد نفسه غارقاً في الديون ويفر من بغداد، ويترك جاريته الحبيبة (الزاهية). يباع قصره ويجري التجار مزاداً على بيع الزاهية.. في كل يوم يتزايد السعر ويضطرون إلى استكمال المزاد غداً. وفي اليوم التالي تستمر المزايدة وينتهي اليوم بلا نتيجة.. هكذا يكتشف السندباد في سرور أن جاريته لن تباع أبداً.. سوف تستمر المزايدات إلى الأبد، والنتيجة هي أنه يعود إلى بغداد ليسدد ديونه ويستعيد الجارية الأثيرة لديه...
الجشع.. العاطفة التي تسيطر على الجميع برغم أننا لا نكف عن الكلام عن القناعة، وعن الكفن الذي لا جيوب فيه.

ضحايا بشار فى مصر

ضحايا بشار فى مصر
انتهيت من مشاهدة باسم يوسف فى حفل تكريمه بالخارج. جراح قلب وصدر يتكلم بإنجليزية جيدة وبثقة، ويعرف كيف يضحك الجمهور إذا أراد. بدا لى أداؤه مشرفًا وواجهة مشرقة للمصريين، حتى إن كان موضوع كلامه هو قمع الرأى بداخل مصر، وهو موضوع يحب الغربيون أن يسمعوه. كلما قابلت صحفيًا غربيًا وجدت أنه يريد أن تقول له إن حرية الكلام مكبلة فى مصر، وأن هناك مكارثية إسلامية حالية تقطع رأس الخصوم فى الميادين، ولا يقبل سماع أى كلام آخر. باسم يوسف يلخص موقفى السياسى العام.. أنا معجب به جدًا وأضحك مع حلقاته حتى تدمع عينى، واشهد أنها مكتوبة ببراعة ومزاج. لكنى لست موافقًا على كل ما يقوله.. هناك هامش اختلاف لا بأس به. لكن على من يبتغى الرد أن يصنع برنامجًا آخر له نفس البريق وان يجد شخصية لها ذات الكاريزما، اما أسلوب (سوف نقتله لكن ليس الآن) فهو أسلوب مريض يناسب بالضبط ما يريد الغرب أن يعرفه عن الإسلام.
دعونا من هذا، فالكلام كثير على كل حال.. دعونا نتكلم عن أزمة سوريا التى فضل بشار الأسد أن يحرقها بدلاً من أن يرحل. هذا رجل يفضل أن يموت 70 ألفًا من أهل وطنه ويتشرد نحو مليون على أن يتنازل. متوسط الشهداء هو 200 شهيد يوميًا حاليًا، مع نزوح نحو 300 ألف مواطن يتوقع ان يبلغوا 700 ألف مع نهاية العام. والمشكلة هنا ان الجيش معه، وبالتالى تحولت سوريا إلى ساحة قتل كبيرة، وصار الوضع مزمنًا كالسرطان لأن القوى متعادلة تقريبًا. وهو ما يجعلنا نحمد الله على قرار الجيش المصرى المبكر بالانضمام إلى الشعب فى ثورة يناير، حتى لو قيل إنه فعل هذا لمصلحته ولأنه يرفض التوريث.
بدون مواضيع العاطفة والتاريخ المشترك والانتماء اللغوى والدينى، تظل سوريا بلدًا بالغًا الأهمية لمصر حتى على المستوى البراجماتى البحت.. كل الفاتحين الكبار مثل تحتمس الثالث وبونابرت عرفوا ان أمان مصر يبدأ فى الشرق.. فى الشام.. سوريا وفلسطين.. ضياع سوريا معناه سقوط البوابة الشرقية التى تحمينا.
يزداد عدد السوريين فى مصر مع الوقت، نازحين من نيران وصواريخ وبلاطجة بشار، وبرغم التكلفة العالية نسبيًا للنزوح الذى يكلف 20 ألف جنيه للأسرة. والكل يعرف أن عددهم تجاوز الخمسين ألفًا وأن معظمهم يقيم فى ضاحية 6 اكتوبر التى يطلقون عليها (دمشق الصغري). يبدو أن النشاط السكانى الأهم فى 6 أكتوبر صار هو الشاورمة والحلوى الشامية. هناك كذلك مناطق الهرم وفيصل والعبور والرحاب واحياء فى الإسكندرية ودمياط وبورسعيد وبعض مدن الدلتا. هناك تضارب فى الأرقام على كل حال بين 40 ألف لاجئ ومئة وأربعين ألفًا فى أقوال أخرى، مما يدلك على حجم المشكلة. يقول الناشط السورى عبد الله كجك: (إن عدد الأسر السورية التى لجأت إلى مصر حوالى 1300 أسرة متوسط عدد أفراد الأسرة الواحدة خمسة أفراد، أغلبهم من السنة وهناك 13 أسرة من الطوائف المختلفة كدروز ومسيحيين وعلويين..أما الأسر الشيعية فتفضل اللجوء إلى لبنان وإيران).
ليسوا سعداء بالتأكيد.. لا أحد يفارق وطنه ويشعر بالسعادة، لكن المشكلة الأخرى هى أن مصر ليست حاليًا بالبلد الرحب المضياف. مشاكلها كثيرة جدًا.
هناك نقاط إيجابية بلا شك ذكرها اللاجئون أنفسهم؛ منها ان اللاجئ السورى لا يحتاج لتأشيرة دخول لمصر.. يمكنه الدخول كسائح ثم يتم تقنين إقامته، ومنها أنهم لا يعيشون فى معسكرات إيواء بل يمكنهم استئجار وحدات سكنية أو تملك مشاريع تجارية. أضف لهذا أن الحكومة المصرية فى صفهم وتسمح لهم بممارسة حقوقهم السياسية.
النقاط السلبية هى الحالة الاقتصادية الخانقة فى مصر.. ومشكلة ان البعض ليس على مستوى المسؤولية للأسف. عندما فتح معبر رفح فى عهد مبارك حدث انتعاش اقتصادى مذهل لدى المصريين، لأن السلع بيعت للفلسطينيين بأربعة أضعاف ثمنها.. لم يكن هذا هو الوقت المناسب ولا الزبون المناسب لهذه الشطارة التجارية. يبدو ان نفس الشيء يحدث الآن. هناك مشاكل فى القيد بالمدارس برغم أن الحكومة كانت واضحة فى التصريح للطلاب السوريين بالمعاملة كالمصريين، لكن الأمر الكتابى لم يصل لإدارات عديدة.
موضوع الزواج من سوريات جريمة حقيقية، وهناك من يقول إنه زواج شرعى كأى زواج آخر.. بصراحة هذا نوع من (الاستعباط) لا شك فيه. هل تذكر طريقة (جمال مبارك مواطن مصرى كأى مواطن عادى. أليس من حقه الترشح؟). الزيجات لا تتم فى ظروف صحية تسمح بالاختيار، وأحيانًا تتم تحت ضغوط مثل التهديد بالطرد من العقار. وانت تعرف كما أعرف أنها أقرب لشراء الجوارى، ولا تخلو من إهانة بالغة للمرأة السورية الباسلة التى لا تنال حقوقها على الأرجح. هل تقبل ان تزوج أختك أو ابنتك بمهر 500 جنيه فقط؟.. بعض هذه العقود عرفى والطلاق يتم بسهولة تامة. الخطير هنا أن بعض اللاجئات قد يضطررن للدعارة لسد احتياجاتهن، وإلا يقبلن بهذه الزيجات الاضطرارية المهينة. هذا استغلال جنسى لا شك فيه وإن تنكر فى شكل زواج. أذكر أيام مأساة البوسنة والهيرسك ان شاعت مقولة (أستر أختًا مسلمة من البوسنة)... فما أسهل هذه التضحية إذ تتزوج حورية أوروبية بارعة الحسن وتأخذ ثوابًا، وقد تحمس كثيرون لهذه الدعوة، فلما قلنا لهم: (استروا أختًا صومالية) فر الجميع بجلدهم !
فى الأردن هناك زيجات من سوريات تجرى وتنتهى خلال ساعات. هناك حملة اسمها (لاجئات لا سبايا) شنتها ناشطات سوريات نسقتها الناشطة (مازنة دريد)، وهى تقوم بتبصير السوريات بحقوقهن، لكن المشكلة لن تحل ما لم نبدأ بأنفسنا.
المشكلة الأخرى هى النغمة الخبيثة الشهيرة (مصر أولاً).. نحن بحاجة لكل مليم فلا يمكن أن نبدد مواردنا الضئيلة على لاجئين. وهى النغمة التى سمعناها أيام مباراة الجزائر إياها وتتردد من حين لآخر، بينما لم يكن احد يجسر على التفكير بهذه الطريقة منذ أربعين عامًا.
نغمة المخالفة للمخالفة وبسبب كراهية مرسى، دفعت كثيرين إلى تأييد السفاح بشار لمجرد ان مرسى هاجمه، وبدعوى ان ما يحدث فى سوريا يهدم بلد الممانعة الأخير. لربما كان بشار هو خليفة عبد الناصر وربما كان صلاح الدين الجديد، لكن ما أعرفه هو أن من يقتل 70 ألفًا من شعبه ويتسبب فى نزوح نصف مليون، ويتسبب فى هذه البهدلة لنساء وأطفال وطنه لدرجة البيع فى مزادات متخفية، ويقصف حلب بالصواريخ والطيران، هو شخص لا يجب أن نقدم له البونبون.
أكرر رجائى السابق: ساعد الشعب السورى بطريقة من عشرات الطرق الموجودة على شبكة الإنترنت، أو ارسل رسالة فارغة إلى اتحاد الأطباء العرب على رقم 9596، لتتبرع بخمسة جنيهات وهذا أضعف الإيمان، وتذكر أنك تدافع عن مصر أولاً، وعن كل شيء جميل ومقدس فى تاريخنا المشترك ثانيًا.

بدأ يلقي خطبته

بدأ يلقي خطبته .. لاحظت طريقته المتريثة في الكلام التي توحي بأن أھم ما في الخطبة لم يأت بعد ..
مع استبدال اللام القمرية بالشمسیة كأن ينطق (في الصباح) بدلاً من (فصباح).. شأن كل من يحاول استجماع أفكاره. عندھا عرفت أنه لا يملك أدنى فكرة عما سیقول، وأن الجزء التالي من خطابه يحمل له مفاجأة ھو نفسه !


حارس البوابة

نسرين كانت فاتنة الدفعة وحلمها. أنفاسها فراشات تتراقص في ضوء القمر الشاحب. كلماتها قطرات من العطر تنسكب على روحك. عيناها نافذتان ترى من خلالهما لمحة عن الجنة. خطواتها زحف الربيع وسط أراض غمرها الثلج في أصقاع سيبيريا .. عندما ينتهي الزحف سيكون السوسن والنرجس والتيوليب قد ملأ الممرات كلها، وسوف تخرج الغزلان تتواثب. سل أي ذكر شارد في دفعتنا عن سبب شروده .. أو لا تسل . قل هي نسرين ولسوف تكون مصيبًا في 99% من الحالات.
لا تسأل أي شابين يتشاجران في دفعتنا عن سبب الشجار .. يتشاجران بسبب نسرين طبعًا، وكل واحد يتنطع زاعمًا أنها نظرت له وابتسمت .. عندما ترى هذا الفتى المجد ذا النظارة السميكة منهمكًا في تبييض المحاضرات، والعرق يسيل على جبينه، وهو يستعمل القلمين الأخضر والأحمر .. فلا تتعب نفسك .. إنه يبيض المحاضرات من أجل نسرين. سوف يناولها كراس المحاضرات دون أن ينظر في عينيها ويفر ... على الأرجح ستكون هناك قصيدة كتبها في آخر صفحة يشرح فيها كم أنه مولع بغزال غنوج لا يكف عن الفرار وسط الأحراش .. سوف يشرح الأستاذ محاضرته ثم يتوقف في لحظة بعينها . هذا بالطبع عندما تقع عيناه على نسرين الجالسة في أول صف . سوف يتلجلج وتتوه منه الأفكار. بعد المحاضرة سوف يناديها ويعرض عليها خدماته .. إذا عجزتِ عن فهم أي شيء فلا تترددي .. تعالي فورًا.. يمكن القول بلا مبالغة إن 90% من شباب دفعتنا يمشطون شعورهم أمام المرآة ويحلقون الذقون بسبب نسرين ... يمكن القول إن أي بذلة أو ربطة عنق أو قميص غالي الثمن تم شراؤه ونسرين في البال. كنا في كلية الطب، لهذا يمكن أن أؤكد لك أن المرضى الذين نمر عليهم في العنابر يغدون أفضل وأصح.. لكنهم كذلك يتظاهرون بالمرض أكثر ويئنون حتى تشفق عليهم نسرين. فقط عندما تغيب نسرين نكتشف أنها شمس وأن هناك نجومًا لم نكن نراها .. هناك هالة وهناك ليلى وهناك هيام وهناك نجوى .. إنها تحجبهن جميعًا بوهجها برغم أنهن لسن قبيحات. نسرين كانت الأنثى الخالدة .. وكان عماد هو صاحب البوابة. لم يكن واحد في دفعتنا يجهل أين بيت نسرين، وكنا نمر هناك بلا سبب واضح. فقط نتخيل ما يوجد خلف هذا الباب. بالطبع ليست شقة عادية، بل هناك يقف العبيد ضخام الأجساد يصبون الخمر والرحيق في كئوس من أكمام الأزهار، بينما ترقص العذارى حول الطواويس، والنمور الناعسة تراقب هذا كله، والقيان القادمات من أرض بونت يحركن المراوح حول نسرين. وفي الحلبة يصطرع الليل مع النهار أو يصطرع المحيط مع الصحراء لتسلية سيدة الساحرات .. لابد أن هذا كله بالداخل. اكتشفنا في ذعر أن صاحبنا (عماد) يسكن في ذات البناية ! نهارك أسود !.. أنت تعيش في زانادو شخصيًا ؟.. تنام هناك وتأكل هناك ؟ كان عماد فتى قصيرًا كثير الصخب والضوضاء، كأنه جرو صغير، وكان مولعًا بالتدخل فيما لا يعنيه. ويحب أن يشعر بالأهمية. اكتسب بالطبع أهمية شديدة جدًا، وقد تصرف الجميع معه باعتباره (هرمز) رسول الأوليمب .. هرمز الذي يذهب إلى آلهة الأوليمب ويتكلم مع زيوس ويمزح مع فينوس، ثم ينزل لنا من جديد .. اعتبرناه كذلك حارس البوابة .. إنه المدخل إلى عالمها .. كنا نلتف حوله في شغف .. أحيانًا كان خمسة منا يتبعونه في كل مكان: ـ «هل نسرين تأكل مثلنا ؟.. هل تنام ؟.. هل لها أب وأم ؟» ـ «هل تدخل دورة المياه ؟.. هل ترسل ثيابها للكواء ؟» كان هو يتكلم في ثقة. نعم هي تأكل .. هو متأكد من هذا لأنه رآها ذات مرة وفي يدها شطيرة .. هي كذلك تدخل الحمام. سمع صوت السيفون ذات مرة ... إن حجرتها تقع فوق حجرته .. ـ «يا نهار اسود !.. يا ابن المحظوظة !» عرفنا كذلك أنها تحب فيروز وأنها تلعب التنس أحيانًا. كان أحيانًا يضع ساقًا على ساق ويقول في غرور: ـ «نسرين مسرورة .. راقت لها تلك المزحة من عصام أمس .. عندما انزلق على السلم وتهشم رأسه .. لقد ضحكت كثيرًا ..» نتصايح .. يا لك من محظوظ يا عصام !.. صحيح أنك في المستشفى وأن فقرات عنقك تهشمت لكن نسرين مسرورة منك. وكيف عرفت هذا يا أخ عماد ؟. يقول في ثقة: ـ «قالت لي هذا بالهاتف .. ظللنا نتكلم نصف ساعة أمس» هكذا نسقط أرضًا ونتلوى غيظًا .. نصف ساعة؟.. تتكلم مع نسرين نصف ساعة؟ بالهاتف؟.. هناك واحد من الدفعة اتصل بها في العاشرة مساء. سمع صوتها تقول (آلو) .. هذا الفتى أصيب ببله مغولي ونوع من الخبال، ويبدو أن أهله يتصلون ببريد أخبار اليوم طلبًا لعلاجه في الخارج على نفقة الدولة .. كانت أهمية عماد مطلقة، وبشكل ما كنا نشعر أنه قادم من عالمها .. من رائحتها .. تعرفون قصة الجائع الذي وقف خارج مطعم كباب يلتهم رغيفًا من الخبز. السبب أن الرائحة كانت تكفيه .. حتى جاء اليوم الذي لم يتوقعه أحد قط. لقد لعبت نسرين التنس فسقطت أرضًا وكسرت رجلها .. بالطبع أطلق الجميع الآهات . البعض يبالغ طبعًا فلا تصغوا لذلك السخيف الذي يقترح أن يصير اليوم يوم حداد قومي.. فقط كان على الجميع مواجهة حقيقة أنها لن تجيء لفترة لا بأس بها. سوف تتحول الكلية اللعينة إلى قفر تنعق فيه الغربان.. نظرنا لزميلاتنا فشعر بعضنا بأنهن لم يكن قبيحات لهذا الحد، أما البعض الآخر فشعر بأنهن قبيحات كالأبالسة .. مرت الأيام وعماد يلعب دوره كحارس بوابة النعيم. إنها اليوم أفضل .. اليوم تمشي على عكاز .. كمال .. إنها تريد أن تبيض لها محاضرات وظائف الأعضاء التي لم تحضرها.. لا تطلبوا مني شيئًا أيها الفاشلون فوقتي لا يتسع لشيء .. ألا تريد أن ترسم لها كل صفحات كراس علم الأنسجة يا هاني ؟.. لا مشكلة .. سوف أخبرها بذلك .. سوف أقول لها إن هاني يعتذر بشدة لأن وقته أثمن من أن يضيعه في رسم هذا الكراس.. هاني كذلك يقول إنها مهمة شاقة وقذرة، وهو قد رسم الكراس الخاص به بصعوبة .. ... هه ؟.. تقول إنك سترسم ؟.. ليكن .. وأنا لن أخبرها بشيء .. هكذا تمضي الأيام .. وفي يوم جاء عماد إلى الكلية فجلس على السور .. عند تلك النافورة الجافة التي تمثل فلاحة مصرية تشوه وجهها. التففنا حوله كالعادة لكنه اشار إلى ثلاثة منا .. كنت أنا منهم .. قال بصوت ثابت جهوري: ـ «أنتم الثلاثة مهتمون بالأدب وتكتبون القصة القصيرة .. أريد الكلام معكم» وقفنا أمامه مرتبكين، فقال لنا : ـ «نسرين رهينة المحبسين كما تعلمون .. محبس الجبس حول ساقها، ومحبس البيت .. تقول إنها تموت سأمًا وطلبت مني أن أجلب لها شيئًا يُقرأ ..» تطوع سامي بأن يحضر لها الإلياذة والأوديسا، أما أنا فوعدت أن أسرق مجموعة نجيب محفوظ كاملة من مكتبة أبي، بينما تطوع حسين بأن يضرب أخاه الصغير في عينه ويسلبه كل مجلدات ميكي التي يملكها .. ـ»لا . لا ..» قالها عماد وأشعل لفافة تبغ .. ثم أردف: ـ «هي لا تريد أعمالاً احترافية .. هي تريد القراءة لكم .. قلت لها إنكم أدباء عظام وهي طلبت أن تقرأ لكم» ثم أعطانا مهلة ثلاثة أيام نقدم له فيها ما نختاره من كتاباتنا .. لم ادخل في حياتي أي مسابقة أدبية ولن أفعل، لكن هذه كانت أخطر مسابقة أدبية أدخلها وكان لابد منها. عدت لبيتي ورحت أنقب في أوراقي .. وجدت قصة معقولة عن شباب حاولوا خطف فتاة ثم أنقذها شاب نحيل ضعيف فوقعت في غرامه. جلست في مكتبي ورحت بخط رائع أبيّض هذه القصة .. أتخيل نسرين وهي تقرأ هذه الفقرة أو تلك .. تبتسم هنا .. ترتجف هناك .. تقشعر هنا .. هناك سطور كتبتها خصيصًا كي تراها. نثرت دعابات كي تضحكها .. سوف تقرأ القصة ثم تغمض عينيها .. ترتجف .. يا الله .. ما هذه الروعة ؟.. ثم تفتح الغلاف لتقرأ اسمي. ترفع سماعة الهاتف وتتصل بعماد: لم أكن أعرف أن صديقك بهذا العمق. عندما تفك الجبس سوف تعود للكلية .. سوف تشق طريقها وسط الزحام ووسط المهنئين . إن عينيها تبحثان عني .. في النهاية تجدني فتتجه نحوي وهي ترتجف .. وبعد ذلك ؟ بصراحة لا أعرف .. لندع كل خطوة تحدد الخطوة التالية .. هكذا فرغت من القصة، فوضعتها في ملف أنيق وحملتها لعماد صديقي .. في الوقت نفسه كان حسين يسلم إنتاجه للجنة الامتحانات المكونة من عماد. قال لي في غيظ: ـ «أنت لن تربح .. لن يروق لها ما تكتبه .. قصصك سخيفة وسطحية. قرأت قصة لك من قبل» قلت له في ضيق: ـ «أنت لا تستطيع كتابة سطر واحد من دون تسعة أخطاء لغوية قاتلة» ـ «نحن نتكلم عن الأدب وليس هذا امتحان اللغة العربية للثانوية العامة» بدأ عماد يتسلم الأعمال، بينما قضينا نحن يومين من الحلم .. سوف تبكي .. سوف تتصل بي طالبة الزواج .. سوف تحدد لي موعدًا في مركب نيلي ..سوف تفر من بيت أهلها وتأتي لبيتي ليلاً وتتوسل لي كي نتزوج.. في النهاية استدعانا عماد لمناقشة الأعمال.. ذهبنا لبيته غير مصدقين أننا في ذات البناية التي توجد بها نسرين، وأن قدميها تخطوان على هذه الدرجات عدة مرات كل يوم .. كنا نتشمم الهواء في ذهول .. لابد أن هذه أروع لحظات عاشها عماد في حياته. لسبب ما جاء بصندوق من الورق المقوى مليء بثمار اليوسفي وكان يلبس جلبابًا أبيض، وتربع على مقعد في الصالون وراح يقشر اليوسفي في استمتاع .. ثم بدأ يشد شعر ساقه وهو يقول في غموض وخطورة: ـ «قرأت الأعمال قبل أن أرسلها لنسرين» تبادلنا النظرات .. حسبنا أنها قرأت الأعمال فعلاً.. تبين أنه جعل من نفسه رقابة ترشح ما يصل لها .. قال وهو يأكل اليوسفي: ـ «طبعًا ..في النهاية سوف أكون مسئولاً عن أي عمل خارج أو بذيء يصل لها .. « ثم بصق البذور وقال وهو يهرش ساقه المشعرة: ـ «حسين كتب قصة شبه جنسية عن شاب ينفرد بالخادمة في المطبخ... عمل رقيع فاشل .. ولا أخفي أنني كنت أقرأ وأنا أشعر بخجل شديد .. هذه قصة مرفوضة ببساطة» ولوح بالورق بطرفي إصبعيه ثم ألقى به جوار حسين .. لقد ألقى كلمته .. لن تمر هذه القصة عبر البوابة أبدًا .. على كل حال وافقته على هذا القرار. هناك هواية معينة لدى الفتيان هي أن يعرضوا وقاحتهم على الفتيات على سبيل طلقات الاختبار. يريدون معرفة إلى أي مدى يمكن أن تتحمل قبل أن تنفجر .. جاء دوري فلوح بقصتي في اشمئزاز: ـ «خطف ومحاولة اغتصاب .. لن أعلق..« وسقطت القصة ذات رائحة اليوسفي في حجري، ثم أنه أخرج قصة أخرى: ـ «قصة سامي جيدة .. هي عن أب فقد ولده.. لكنها غير متماسكة وحبكتها ضعيفة .. لهذا هي مرفوضة» قال سامي محتجًا: ـ «ظننت أنك تراقب القصص أخلاقيًا ولا دخل لك بالمستوى الفني» ـ «بالعكس .. المستوى الفني مهم جدًا .. قصصكم مرفوضة ولن أقدم لها أي شيء» رحنا نرمقه وهو يلتهم اليوسفي وبدأت أفهم لماذا يقتل بعض البشر بعضهم .. هذا سهل جدًا .. الصعب هو أن تقاوم ذلك. أعتقد أن تهشيم عنقه كان أحب المناظر لنا نحن الثلاثة وقتها .. عندما اتجهنا للباب كاسفي البال.. استدرت أسأله في أمل أخير: ـ «ممكن أن ألغي مشهد الاغتصاب بالكامل ..» ـ «سوف تضعف القصة دراميًا .. لابد من اغتصاب .. لكن لا يمكن أن أرسل لها قصة تتحدث عن الاغتصاب» نزلنا السلم شاعرين بالمهانة والحيرة والفشل .. فكرت أن أقتل نفسي، ثم وجدت أنه من الأفضل أن أشتري شطيرتين من السجق من عند عواد، مع كوب شاي بالنعناع .. في الصباح سوف أنسى كل شيء.. وهو ما حدث فعلاً !

(تمت)

أن تكون سوريّاً

أكتب هذه الكلمات، بينما التلفزيون يخبرنى بأن المصابين نتيجة المواجهات فى القاهرة يوم الجمعة قد تجاوزوا 130 مصابًا. حسب الأخبار هناك من أطلق الرصاص على المتظاهرين فى جمعة تطهير القضاء. المرء يتمنى أن تستمر مظاهرة واحدة سلمية حتى النهاية. مظاهراتنا السلمية دامية جدًا، حتى ان المرء يرتجف خوفًا من المظاهرات التى يقررون أنها غير سلمية من البداية.

مشكلة هذا الوضع دائم التأزم هو أن ثورة سوريا والأحداث المروعة فيها نالت منا اهتمامًا أقل مما يجب بكثير، سواء على مستوى المشاركة الشعبية او الإعلام. وقد اعتدت أن يقول لى أصدقائى السوريون: «الله يعينكوا على اللى انتو فيه». هذا يذكرنى بأيام الانتفاضة الأخيرة فى فلسطين عندما خرجت الجماهير المصرية الغاضبة تؤيد الشعب الفلسطينى، ونقلت قناة الجزيرة صورًا للشرطة المصرية وهى تصفع رجلاً مسنًا وتضرب امرأة.. قال أحد قادة الانتفاضة الفلسطينية: «الحقيقة أن الجماهير الفلسطينية يجب أن تخرج فى مظاهرات من أجل ما يمر به الشعب المصرى من عذاب !».

تعثر الثورة المصرية قد أخر ثورات أخرى عديدة فى المنطقة بالتأكيد، ولعل هذا هدف فى حد ذاته. وقد خطر لى أن الشعب السورى يمر بهذا المخاض العنيف كى يصير فى النهاية مثلنا الآن !.. هذا شيء غير مغر على الإطلاق. لكن خطابات تصلنى من سوريا تخبرنى طيلة الوقت أننا فى وضع مترف بالنسبة لما يعانيه هؤلاء الأشقاء.

هذا خطاب من أحد سكان حلب – المحامى علاء السيد - يخاطب فيه السوريين الموجودين خارج سوريا، وهو واقعى جدًا إذ يقول إن الثورة معاناة وألم وليست مجرد شعارات تكتبها على الكمبيوتر وأنت فى غرفة مكيفة.. اقرأ العبارات بتركيز وتخيل نفسك فى هذا الوضع:

« أعزائى.. أطلب منكم بكل محبة أن تجربوا بعضاً من الأمور التالية، قبل أن تكتبوا أو تعلقوا على ما نكتب، لكى تكون كلماتكم ملامسة جزئياً لواقعنا:

« - جربوا أن تُنزلوا قاطع الكهرباء فى بيوتكم ليلاً لمدة عشر ساعات فقط لا غير، لا لأيام طويلة كما يحدث عندنا، ولا تخرجوا يومها من البيت، وابقوا مع أطفالكم منتظرين على أضواء الشموع، شغلوا تسجيلاً لصوت انفجارات صواريخ وقذائف وطلقات رصاص تدوى حولكم، متخيلين ان يكون إحداها فى بيتكم فى كل لحظة.

- جربوا أن تضعوا أهم مقتنياتكم فى شنطة صغيرة، تضعونها دوماً خلف الباب، مقتنعين دوماً انه سيأتى يوم تخرجون هاربين من بيوتكم، وربما لا يتسنى لكم اصطحاب هذه الشنطة، لتفقدوا كل شيء حينها.

- جربوا أن تمثلوا تمثيلية صغيرة، تجمعون فيها أطفالكم برعب وتهرعون عند الفجر بالملابس التى عليكم فقط،لتبيتوا ليلة واحدة فى العراء، وحاولوا ان تتخيلوا فى هذه الليلة أنكم فقدتم كل شيء، ولن تستطيعوا العودة بعدها لبيوتكم.

- جربوا ان تتخيلوا أن باب البيت تحطم وفتح على مصراعيه، ودخل منه مجموعة أشرار مدججين بالأسلحة والقنابل اليدوية، يرغدون ويزبدون، محطمين كل ما يقع تحت أياديهم، طالبين رجل البيت الذى يفكر لأجزاء من الثانية هل يهرب ويترك زوجته وأطفاله تحت رحمة هؤلاء، أم يستسلم لهم، ليلقى مصيراً مجهولاً ومعلومًا فى الوقت ذاته.

- جربوا أن تقطعوا المياه عن بيتكم لمدة يوم واحد فقط، وأن تراقبوا الخزان المنزلى عشرات المرات يومها هلعين من أن تفرغ مياهه، وعندما تفرغ جربوا أن تحملوا وعاءً بلاستيكياً يتسع لعدة ليترات، وتخرجوا فى الشوارع بحثاً عن طريقة لملئه، فلا تجدون.

- جربوا ان تركنوا سيارتكم فى اى مكان، وتنزلوا منها لمشوار بسيط، وتنظروا اليها مودعين، وأنتم مقتنعون تماماً أن الإمكانية الغالبة هى عدم رؤيتها عندما تعودون، وإن جرى ذلك، يهنئكم من حولكم بالسلامة لأن السيارة خطفت وأنتم لستم بداخلها، وفى اليوم التالى تشاهدون سيارتكم يقودوها أشرار لا تجرؤون حتى على النظر إليهم.

- ليجرب أصدقائى الأطباء منكم أن يجروا فحصاً أو عملية جراحية، بإمكانيات طبية معدومة، وهم طوال الوقت ينظرون لسقف الغرفة بترقب متوقعين أن ينهار عليهم نتيجة انفجار قذيفة ما.

- لتجرب الامهات منكم ان يودّعن أطفالهن يومياً وهم ذاهبون للمدرسة، هذا مع العلم أن أغلب الأطفال لم تفتتح مدارسهم إلا من أسعفه الحظ، وتنظرن اليهم نظرة أمل بأن يسلمهم الله ويرجعوا سالمين، مع قناعة داخلية بأن ضرراً كبيراً من الممكن ان يصيبهم، بالخطف او بالموت برصاصة طائشة أو قذيفة أو بجريمة متعمدة، حمى الله جميع الأطفال.

- جربوا أن يتوقف دخلكم المادى تماماً لشهور طويلة، وأن تستنفذوا مدخراتكم الهزيلة، وان تصطدموا امام واقع أنه لا يوجد فرصة عمل من أى نوع، وبالتالى لا دخل مادى، وتقفوا عاجزين أمام جوع أطفالكم.

- جربوا تمثيلية صغيرة أن تتعرض زوجة لحالة ولادة، أو طفل لحالة ألم شديد ليلا ً، ولا توجد أية وسيلة اتصال بأى طبيب، هذا إن وجد طبيب باق فى البلد أصلاً، وأن تحملوا المريض المتألم وهو بحالة خطرة، فى الظلام الدامس، فى طرقات لا يسير فيها حتى الأشباح، باحثين عن أى مشفى لم يغلق أبوابه منذ زمن أو معونة طبية لا تجدونها، ويعترضكم فى الطريق مجموعة من الحواجز يشهر أصحابها أسلحتهم عليكم، مفتشين السيارة بشك وريبة وببطء مميت، لتعودوا بعدها خائبين دون إيجاد أى مساعدة، وتنظروا بصمت وبلا حيلة لمن تحبون، يتألم ويصرخ دون أن تستطيعوا أن تقدموا له نفعاً.

- جربوا أن تتخيلوا أنكم دخلتم الى أى سوبر ماركت، لتشاهدوا منتجات غذائية وغيرها بماركات لا يعلم بها إلا الله، وبدون أى تاريخ صلاحية أو رقابة صحية، لشركات أقل ما يطلق عليها شركات الحروب والأزمة، وبأسعار تزيد عشر مرات عن أسعار المنتجات المعروفة المأمونة، ولا خيار أمامكم إلا شراءها لإطعامها لأطفالكم آملين أن لا تسبب لهم التسمم.

أنا أعلم علم اليقين أنكم لن تجربوا أياً مما ذكرت، لأنه مما لا يطيقه بشرُ ليوم واحد...

و لكن نحن نعيشه فعلياً منذ شهور طويلة...

نتمنى أن لا يجلس البعض منكم منتظراً استقرار الأمور، لينزل من سلم الطائرة بالطقم والكرافتة والشنطة السمسونايت ليقبل أرض الوطن، مطالباً بحصته بما تبقى من الكعكة المنهكة، هذا ان تبقى شيء، وفقاً لنضاله الطويل عبر التعليقات والبوستات النارية الفيسبوكية، وبحفنة الدولارات التى تبرع بها لأعمال الإغاثة خلال حفلة باربكيو مقامة على أرض حديقة من النجيل الأخضر، وأعود وأنوه أننى قلت البعض منكم.

أتمنى ممن يخطط لذلك أن يصل للوطن أبكر من ذلك بقليل، ليجرب على أرض الواقع لا بالخيال ما هو الثمن الذى يدفعه من هم بالداخل، غير طامعين بأى مكسب إلا النجاة بحياة أطفالهم لا بحياتهم..

و باقون لن نغادر، وبدون شكوى أو اعتراض على ما قسمه الله لنا وقدره علينا، آملين بالنصر.

رفقاً بنا أحبتى.... فلو جربتم بالخيال فقط بعضاً مما ذكرته أعلاه لعذرتمونا.. رجاء أخير لا تعلقوا على هذا البوست كالعادة: عمن هو المسؤول عن ذلك، وتتهاتروا، فالمسؤول معروف، والجدل فى هذا الموضوع عقيم»

للحديث بقية طبعًا، لكن أرجو إلى ان نلتقى ثانية ان تساعد الشعب السورى بطريقة من عشرات الطرق الموجودة على شبكة الإنترنت، أو ترسل رسالة فارغة إلى اتحاد الأطباء العرب على رقم 9596، لتتبرع بخمسة جنيهات وهذا أضعف الإيمان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش


الشيء في الصندوق - اﻷخيرة


عندما جلس هاني وحيدا في غرفته، اندهش للتطور الذي يعتري عواطف المرء. عندما عاد للدار كان ساخرا ناقدا لا يكف عن التهكم على سخف الفتيات..  كانت الأمور تبدو له واضحة جدا

كانت الأسرة كلها نائمة الآن.. شخير أخيه الأصغر يتعالى في فراشه الصغير بركن الغرفة.. ذلك الفراش الذي صنعوه له من صندوق قديم وضعوا عليه حشية.. الأبوان نائمان، والفتاة نائمة في غرفتها.. هذا جو من الوحدة يوحي بأي شيء. يتضخم الخيال مع الوقت ويصير المستحيل ممكنا

فلنر هذا الصندوق الصغير إذن
أبخرة الشاي تتصاعد وهو يقلب الصندوق في يده، ثم فتحه بحذر وأخرج اللفافة وراح يقرأ القصيدة

ولما توارى شعاع الأصيل
وعدنا من الغاب نبغي الرحيلا
دعت لي بسلوى وصبر جميل
إذا ما الوصال غدا مستحيلا
وتسمع في الليل همس القبور
وأنفاس من غاب عودا نحيلا
وقابيل يلقى أخاه الحبيب
فتجري الدماء ويهوى قتيلا
لقد حان حينك يا ابن الدياجي
ألا تسمع الموت يأتي عجولا؟
خرجت لتلهو قرب الردى
فجاء الردى غاضبا مستحيلا

لا يمكن أن تتهم الشاعر بأنه عبقري، وبالتأكيد لم يكتبها المتنبي، لكن هناك جوا من الغموض المشئوم يحيط بهذه الأبيات.. شيء سام.. لا شك في هذا.. ستة أبيات

الخط خط رقعة جميل جدا وأنيق.. مد يده يبحث عن ريشة الكتابة التي كان يستعملها في مدرسة الخطوط وأخرج قنينة الحبر الشيني الصغيرة

بحذر.. وبنفس الخط الجميل تقريبا كتب في نهاية القصيدة:ـ

وعدت هنالك وقت الغروب
فألفيتها في انتظاري طويلا
وعاد الوصال يزور القلوب
وعاد الربيع ينير السهولا

بحذر.. وبنفس الخط الجميل تقريبا كتب في نهاية القصيدة - (رسوم: فواز) ـ

تمت بحمد الله
ونظر في رضا إلى البيتين الأخيرين.. نهاية سعيدة إجبارية..  لقد انتهى هذا الكابوس إذن
وهنا انقطع التيار الكهربائي

******

العمة كانت تعرف أفضل في أيامها الأخيرة
عندما تقدم بها العمر وأدركت أن الرحيل على الأبواب، قررت أن تفتح هذا الصندوق الذي وجدته في حاجيات أمها.. أمها كانت تقول كلاما غريبا عن عثورها عليه في المقابر يوما ما، كانت أمها لا تقرأ ولا تكتب لذا لم تعرف قط ما في الصندوق حتى ماتت.. الآن وقد صار الحاجز الفاصل بين العالمين واهيا جدا أو افتراضيا خطر لها أن تلقي نظرة

طلبت من ابنتها وصال أن تجلبه لها، ثم جلست في الفراش تضيق عينها في ضوء المصباح الشاحب
فتحت الصندوق وبعينين واهنتين قرأت المكتوب في اللفافة.. ولم تفهم شيئا:ـ

ولما توارى شعاع الأصيل
وعدنا من الغاب نبغي الرحيلا

بيت شعر واحد.. ما معنى هذا ولماذا يدفنه أحد في صندوق؟ لم تدر السبب.. لكنها طلبت من ابنتها أن تحتفظ به في خزانة الثياب في الرف العلوي.. حيث تحتفظ بالبطاطين

راحت تتأمل عود وصال الرشيق وهي تشب على الفراش لتضع الشيء في خزانة الثياب، وخطر لها أن وصالا هي أروع شيء حققته في حياتها.. عروس فاتنة مكتملة وطالبة جامعية.. أفضل أولادها بلا جدال
عندما نامت أخيرا لم تكن تعرف أنها المرة الأخيرة

يقول رجال الشرطة إن الفتاة ارتكبت خطأ فادحا. لقد عجزت عن النوم فشربت جرعة من دواء الكلورال المنوم.. لما عجزت عن النوم برغم هذا أخذت قرصا منوّما من أدوية الوالدة.. كلورال مع الكحول أو المنوم.. كثيرون تلقوا درسهم الأول في علم الفارماكولوجيا وهم يدخلون القبر

ماتت وصال بطريقة عبثية عجيبة.. مخزون هائل من الحزن صار لدى العمة كي تقزقزه كاللب وحدها في كل ليلة.. وطالت أيام الحزن وهي تدعو الله أن يرحمها وتموت

ما حدث بعد هذا هو أنها طلبت من أحد أولادها أن يجلب لها ذلك الصندوق اللعين.. عندما فتحته بيد واهنة ألقت نظرة على القصيدة.. فوجدت الأبيات تقول:ـ

ولما توارى شعاع الأصيل
وعدنا من الغاب نبغي الرحيلا
دعت لي بسلوى وصبر جميل
إذا ما الوصال غدا مستحيلا

ارتجفت ذعرا.. هذا البيت الأخير لم يكن موجودا بالقطع قبل ذلك
وماذا يقول؟ يقول: "إذا ما الوصال غدا مستحيلا".. بالفعل صار الوصال مستحيلا؛ لم تعد هناك وصال
امتلأت تشاؤما من هذه القصيدة، وتذكرت أنها فقدت ابنتها الفاتنة يوم فتحت الصندوق.  هذا الصندوق ملعون بلا شك.. هذا الصندوق مسحور

وهكذا قضت أيامها الأخيرة في محاولة الخلاص من هذا الصندوق.. جربت طرق التدمير كلها، وفي النهاية أدركت أن الصندوق والقصيدة أقوى من الجميع.. وعرفت أن عليها أن تدفن هذا الصندوق معها.. فقط في كفنها وتحت الأرض لن يجده أحد
هكذا أوصت.. ولم تدر أن هذه الوصية بالذات هي ما سيدفع وغدين من الأسرة، هما هشام وصلاح إلى نبش قبرها.. لقد كان الإغراء أقوى منهما

******

بعد ساعتين عاد التيار الكهربي فأطفأ هاني الشموع التي أشعلها في الصالة.. لم يشعر أحد من النائمين بالانقطاع، أما هو فقد كاد يفرغ أحشاءه ذعرا. تذكر أسطورة لعنة الفراعنة وكيف انقطع التيار الكهربي عن القاهرة لحظة فتح تابوت توت عنخ آمون

قرر أن يعود ليلقي نظرة على القصيدة التي كتبها منذ قليل
هنا وجد الأبيات التالية في نهاية القصيدة:ـ

تراك ستصمد حتى الصباح؟
 تراك ستصبر صبرا جميلا؟

هنا شعر بشعر رأسه ينتصب.. هذا بيت لم يكتبه.. هذا بيت كتب نفسه في الظلام.. القصيدة مصرّة على أن تستطيل.. لم تقنع بالبيتين الأخيرين

وفي هذه اللحظة شعر بتلك الرغبة المجنونة.. هرع إلى المطبخ وانتقى أكبر سكين هناك.. عاد لغرفة النوم.. وقف يراقب في نهم أخاه النائم.. يرمق شريان عنقه النابض.. الدم الدافئ ينتظر بالداخل.. دم أحمر قانٍ
ثم فطن لنفسه فتراجع مذعورا

هرع هاني إلى المطبخ وانتقى أكبر سكين هناك ـ (رسوم: فواز) ـ

هناك الأبوان النائمان في غرفة النوم.. لن يشعرا بالرحيل.. سوف يكون موتا رحيما
وماذا عن الكيروسين؟ هناك موقد بريموس به كيروسين.. لو سكب منه في أرجاء الشقة وأشعل عود ثقاب فلسوف ينتهي كل شيء

ثم فطن لنفسه من جديد.. قرأ المعوذتين.. إنه واقع تحت تأثير نفسي كاسح
يمكن أن ينهي هذا بأن يثب من النافذة.. أن يقتل نفسه.. سيكون هذا أفضل الحلول الممكنة من دون أن يؤذي أحدا سواه
ثم عاد يتيقظ من جديد.. هذا هراء.. إنه يهذي

الشيء في الصندوق وضعه في مأزق يفضّل معه الانتحار على أن يذبح أحبابه.. لكن لماذا يختار بين الاثنين؟
تراك ستصمد حتى الصباح؟
تراك ستصبر صبرا جميلا؟
لا.. لن يستطيع الصمود.. لو مرت ساعة أخرى سيكون قد ذبح كل أحبائه.. أو قتل نفسه

جلب زجاجة الحبر الشيني ووقف عند حوض المطبخ وسكب كل قطرة فيها على القصيدة، حتى تشوهت تماما وصارت عسيرة القراءة.. وضعها في العلبة، ثم غادر البيت
بالتأكيد سمعوا صوت الباب وهو ينغلق.. بالتأكيد أصابهم الذعر وتساءلوا أين هو.. لا يهم

راح يركض في الشارع الخالي
راح يركض عبر تلك الأرض الخالية المظلمة.. أرض لم يتم بناؤها بعد، وإن كانت بعض الأساسات قد وضعت فيها
وجد عمودا من خرسانة فركع جواره في الظلام، وراح ينبش وينبش

فريشت.. فريشت.. فريشت
الصوت يحطم الأعصاب. يمكنك أن تجن بلا مبالغة. هناك تلك النغمة المكتومة، وهناك ذلك الإحساس القوي بالتربة الرطبة
وضع الصندوق الصغير في الحفرة..ثم راح يهيل فوقه التراب

عندها رأى ذلك الشخص قادما من بعيد.. الظلام دامس لكنه يراه في ضوء النجوم.. توقف قلبه للحظة من الذعر، ثم نهض وانطلق يجري بلا توقف

أنت تعرف أنه سيجن ويقتل نفسه في الأيام القادمة.. لن يفهم أحد سبب هذا الضغط العصبي الشنيع الذي  آذاه كثيرا.. لكن هذا ليس موضوعنا طبعا

******

أنا وجدت القصيدة
يمكنني الآن أن أقدم لك هذا الاعتراف الصغير. كنت عائدا من دار صديق لي في هذه الساعة المتأخرة، وشعرت بنداء غريب يدفعني إلى عبور هذه الأرض الوعرة الخالية من المباني.. كنت أشعر بذعر لكني تمالكت نفسي
رأيت هاني يدفن شيئا ويفر كالمذعور.. مشيت إلى حيث دفن ما بيده.. وأخرجت ذلك الصندوق الصغير

وعندما فتحت الصندوق شعرت بأنني أعرف القصة كلها.. أعرف الفتى عمادا وهالة وهاني والوغدين صلاح وهشام
القصيدة قد تلوثت بالحبر الشيني كلها لكني أعرف كل حرف فيها
سوف تكتمل القصيدة.. ربما تبلغ ألف بيت

ويوما ما سوف يكملها أحد رجال التبو في منطقة تسيلي -ممن يجيدون العربية- ويضيع في الصحراء وسط العواصف الرملية.. وسوف يموت، لكن القصيدة سوف تصل كاملة إلى "أوبار"ـ

الآن أنا أملك الصندوق والشيء في الصندوق.. القصيدة..  وأملك أن أنقلها لك.. وأعرف أنها ستكتمل. لهذا كتبت هذه القصة، وبالتالي صارت القصيدة لدى كل من قرأ القصة

تسعة أبيات في هذه القصة، أحدنا سوف يكتشف غدا أنها عشرة أبيات.. والقصة تزداد طولا وتنتقل من يد إلى يد
ـ"أوبار".. قد قمت بواجبي.. فهل أنت مسرور؟

تمت

الشيء في الصندوق - 4



أين عماد؟

كانت الساعة الآن الحادية عشرة ليلا، وقد أوشك الأب على غلق أقفال البيت.. ثم تنبه الجميع إلى أن الصبي عماد ليس هنا، وهذا شيء معتاد.. لكنه لا يطيل التأخر إلى هذا الحد لأنه عوقب كثيرا من قبل على تأخره خارج البيت.. الحقيقة أنه شبيه بقط حبيس لا يقر في البيت أبدا


عماد.. عماد.. أين أنت أيها الوغد؟

هكذا بدأت عملية البحث. وتم سؤال الجيران، ثم ارتدى الأب ثيابه من جديد وخرج يبحث عن الصبي وهو يطلق السباب.. من الخير للفتى أن يكون قد مات فعلا.. هذا هو المبرر الوحيد الذي يسمح بالغفران له.. فيما عدا هذا ليس من مصلحته أن يظل حيا.. سوف يموت فورا


جو التوتر العام ساد البيت، وبدأت الأم تقرأ القرآن وتهرع من حين لآخر إلى الشرفة




هالة شعرت بتأنيب ضمير.. ربما هو خائف جدا من موضوع السيجارة.. ربما خائف لدرجة أنه فر من البيت.. هي كانت قد أزمعت أن تكتفي بإرهابه.. لكن من أين له أن يعرف باقي نيتها؟



يجب أن نقول كذلك إن الجو كان ملوثا بالموت.. حادثة الموت التي وقعت صباحا جعلت الجميع متوترين

هكذا دخلت غرفتها وحاولت أن تفكر في شيء آخر، لكن صورة عماد كانت تبلبل ذهنها
مدت يدها للصندوق لتعيد تفحّص تلك اللفافة اللعينة.. وبشفتين تتحركان قرأت الأبيات:ـ




مدت هالة يدها للصندوق لتعيد تفحّص تلك اللفافة اللعينة ـ (رسوم: فواز) ـ



ولما توارى شعاع الأصيل

وعدنا من الغاب نبغي الرحيلا
لقد حان حينك يا ابن الدياجي
ألا تسمع الموت يأتي عجولا؟
خرجتَ لتلهو قرب الردى
فجاء الردى غاضبا مستحيلا

هنا توقفت وراجعت آخر أبيات

هناك جزء لم تقرأه من قبل.. هي متأكدة أن آخر بيت في القصيدة اللعينة كان البيت "لقد حان حينك يا ابن الدياجي.. ألا تسمع الموت يأتي عجولا؟"، فماذا حدث بالضبط ومتى؟ هناك بيت قد أضيف.. لا شك في هذا.. نفس الخط ونفس الحبر


كانت هالة قوية الشخصية تثق في حواسها جيدا.. أي شخص سواها كان سيعتقد أن البيت الأخير قد فاته، لكنها كانت متيقنة.. القصيدة اللعينة قد استطالت بيتا



البيت يتكلم عن شخص أراد اللهو قرب الردى فمات.. كان الردى أكثر براعة



*******



في الصباح وجدوا البقايا وعرفوا القصة كاملة

الصبية الذين كانوا مع عماد رأوا المشهد ففروا لبيوتهم وأصابهم ذعر حيواني يمكن فهمه، وقرروا أن يلوذوا بالصمت.. لكنهم تكلموا في النهاية


عماد نام على قضيب القطار -بين القضيبين إذا شئت الدقة- ودفن رأسه بين ذراعيه بينما قطار الثامنة قادم، وكان ينوي أن يبهر الصبية بشجاعته.. هؤلاء المراهقون يمكن أن يفعلوا أي شيء كي يبهروا أترابهم. ما حدث هو أن شيئا يتدلى من القطار تمسك به.. تعلق بسرواله.. وهكذا فوجئ الصبية بأن زعيمهم قد اختفى. لم تمر العجلات من حوله في سلام، ويبدو أن جسده تفتت في ثانية واحدة



كانت ميتة شنيعة، وسوف أعفيك من وصف ما فعلته الأسرة والأم رحمة بأعصابك.. لقد حلت حقبة من اللون الأسود والكآبة على هذا البيت الذي كان آمنا



ظلت هالة تشعر بعدم راحة نحو ذلك الصندوق اللعين، وتلك الأبيات الغريبة التي قرأتها والتي ازدادت بيتا بلا تفسير واضح



ذات ليلة جلست في فراشها ومدت يدها تفتح ذلك الصندوق من جديد.. تحسست أبيات القصيدة وقرأتها مرة واثنتين.. وقررت أن تعرض هذه الأبيات على مدرس اللغة العربية الشاب جارهم، لعل الكلمات تخفي أكثر مما تفهمه هي. ثم غلبها النعاس والعلبة في يدها



هي الآن نائمة على ظهرها. صدرها يعلو ويهبط كأنها تعاني عسرا في التنفس. العرق.. العرق يجعل شعرها عجينة واحدة لزجة.. كهف مظلم.. مشاعل.. هناك من ينتظر في الكهف.. عينان شريرتان.. رائحة عطن غريبة.. هذه رحلة لم يقم بها بشري إلى عالم لم يره أحد. أعماق الظلمات.. المادة الخام للشر.. تشعر بهذا كله.. وتدرك أنها مذعورة، لكنها كذلك عاجزة عن النهوض.. عاجزة عن الفرار





كان هناك من ينتظر في الكهف وله عينان شريرتان ـ (رسوم: فواز) ـ



وسمعت صوتا يأمرها:ـ

ـ تخلصي من القصيدة! تخلصي من القصيدة إن شئتِ السلامة
كانت تسمع الصوت بوضوح، تعرف أن هذا "أوبار". لا شك في هذا برغم أنها لا تعرف من هو "أوبار" ولم تسمع عنه من قبل. كانت ترتجف خوفا.. عرفت أنها اختُرقت وأنها ترى ما لا يحق لها أن تراه


*******



كان البيت كله غافيا عندما اتجهت هالة إلى المطبخ.. صوت أذان الفجر يتردد من مسجد قريب. وضعت الصندوق على الموقد، ثم أشعلت عود ثقاب؛ سوف يحترق هذا الشيء القذر.. سواء كان خطرا حقيقيا أو وهما.. إنها تشعر بأنه ملوث بالدم.. لماذا ظهر بعد الحادث الأخير؟ ولماذا التقطه المرحوم عماد بالذات؟



بدأت النار تتمسك بالصندوق وتنهدت هي الصعداء. لكنها بعد لحظة بدأت ترتجف.. إن النار تلتف حوله لكنها لا تؤذيه. هذا الشيء أقوى من النار



جرّبت أن تحرقه عدة مرات وبللته بالكيروسين وجربت من جديد.. لا جدوى.. هذا الصندوق اللعين أقوى من أن يزول بسهولة



فكرت في أن تلقيه في القمامة، لكن الإجابة كانت قد وصلتها وشعرت بها في أعماقها بلا جدال. هذا ما يريده ذلك المسخ الذي رأته في الحلم بالضبط.. هناك أحمق سيجد الصندوق في القمامة ويفتحه، وسوف ينتقل الصندوق ليد أخرى ويموت شخص آخر.. وسوف تزداد القصيدة طولا



لو احتفظت بالصندوق فهي تجازف بميت آخر، أو جريمة قتل أخرى

ربما يقتل أبوها أمها، أو العكس، أو تفعل هي هذا كله
حاملة هذه الهواجس عادت إلى غرفة نومها التي تسلل لها ضياء الفجر الخافت الواهن.. جلست على الفراش كأنها بوذا يتأمل.. وقررت أن تنتظر حتى يصحو الجميع


*******



من المهم أن نجد من يحبنا.. لسبب واحد هو أننا نحتاج أحيانا إلى من يصدقنا.. وكان هاني يحبها فعلا.. مدرس اللغة العربية الشاب الذي يقطن قرب بابها يهيم بها حبا.. لقد تبادلا الحديث الصريح كثيرا وكانت تعرف أنه ينتظر.. يستجمع شجاعته قبل أن يكلم أباها



جلسا في ذلك المقهى الذي اعتادا الجلوس فيه، فرشفت بعض الشاي من الكوب.. ثم استجمعت شجاعتها وحكت له تلك القصة الطويلة

بالطبع لم يبدُ مصدقا، لكنه يحبها وعلى استعداد لسماع الكثير من هرائها.. ربما اعتبر هذا ترفا


لما انتهت من قصتها دفنت وجهها في الكوب حتى لا يسخر منها

قال لها:ـ
ـ وأين هذا الصندوق؟
نظرت حولها ثم وضعته على الشرشف أمامه. مد يده ليفتحه لكنها أوقفت يده في صرامة:ـ
ـ لا أعرف.. ربما تصيب اللعنة من يفتح الصندوق أو يقرأ القصيدة


ـ أنا سآخذ الصندوق الآن

قالت في جزع وقد اتسعت عيناها:ـ
ـ أنت لا تفهم. هذا هو ما يريده بالضبط.. يريد أن يجد مسارا جديدا للحياة
ـ لنقل إنني لن أمنحه هذه الفرصة


ثم مد يده يعبث وأخرج القصيدة.. قرأها مرة ومرتين ثم قال باسما:ـ

ـ ليس شعرا جيدا جدا.. لو كان هذا الشعر يكتب نفسه فهي طريقة غير ناجحة لكتابة الشعر.. ثم أن بعض الأبيات مكسورة


ثم التمعت عيناه وقال في حماسة:ـ

ـ أنا أكتب الشعر كما تعرفين.. سأكمل هذه القصيدة بنفسي


.......

الشيء في الصندوق (3)


هناك في تلك الكهوف المظلمة في صحراء تسيلي، يمكنك أن ترى أن الليل قد دنا، ومعه بدأت الشمس الحارقة تبدي شيئا من الرحمة
الذئاب تعوي فيرتجف رجال "التبو" الجالسون حول النيران ليلا، ويتبادلون النظرات من وراء ألثمتهم.. بينما تطلق الجمال والإبل رغاءها وحنينها بالترتيب

هناك في تلك الكهوف المظلمة وخلف منطقة الرمال المتحركة، حيث لا يجسر أحد على الدنو، يمكنك أن ترى ذلك الكهف الذي احتشدت الصخور على مدخله.. هل هي صخور حقا؟ بل هي جماجم بيضاء نظّفتها العواصف والرمال الناعمة

هناك عاصفة دانية بلا شك في الغد

داخل الكهف يمكنك بصعوبة بالغة أن ترى ذلك المشعل الواهن، وجواره يجلس كيان فارع مفزع يخيل لك أنه هيكل عظمي، يمسك بريشة هائلة الحجم ويضع أمامه لفافة.. عينان واهنتان تراقبان الورق وسط الضوء الخافت

داخل الكهف يمكنك بصعوبة بالغة أن ترى ذلك المشعل الواهن

إنه "أوبار" الشاعر الملعون.. الشاعر الذي نشرت أشعاره الطاعون وسببت المذابح، وأدت إلى انتحار عشاق وموت أطفال وهم يصرخون

هناك في هذا الكهف ينتظر "أوبار" عدة عقود.. عدة قرون.. من أجل قصيدة جديدة، قصيدة مكتملة الأبيات

 غير أن قصائده كانت ذات خاصية غريبة، هي أنها تكتب نفسها بنفسها؛ يبدأ أول بيت فقط، وأفعال البشر هي التي تكملها

كل قصيدة صنعها الطمع والجشع والمقت والحسد والكفر والشهوات
ـ"أوبار" ينتظر، منذ قرون

هناك قصائد بكل اللغات تتناثر من حوله.. قصائد باللاتينية، بالآرامية، بالسويدية، بالإنجليزية، بالمسمارية، بالأترورية، قصائد اكتملت جميعا وعادت له، وعندما يحرق اللفافة فإنها تصل إلى سيده الدائم، سيده الذي لا يجرؤ على ذكر اسمه

على اللفافة التي أمامه بدأ يقرأ الحروف التالية تكتب بالدم:ـ

ولما توارى شعاع الأصيل
فتجري الدماء ويهوى قتيلا

تحركت شفتاه فيما يشبه ابتسامة قاسية؛ سوف ينتظر

*******

الصندوق الصغير ظل على الأرض فترة طويلة

يمكن أن ألخّص الموقف لك بأن رجال الإسعاف ألقوا بالجثة على المحفة في إهمال، ومن الواضح أنها كانت تقبض على الصندوق الصغير الذي لم يلحظه أحد، قبل دخول السيارة سقط الصندوق على الأرض وركلته الأقدام جوار جدار

وضعوا في السيارة جثة هشام أولا ثم جثة صلاح

صلاح قد هشّمت زجاجة رأسه من الخلف، أما عن هشام فقد فتح النافذة ووثب إلى الشارع ليتهشم جسده على الإفريز، برغم هذا يبدو أنه ظل ممسكا بالصندوق فلم يتخلَ عنه إلا لحظة دخول السيارة كما قلنا

انطلقت السيارة وعواؤها الكئيب يمزق الأعصاب قبل أن يمزق الصمت. ولحق بها عدد من الصبية يتصايحون مرحا

يمكنك أن ترى الصبي عماد والصبي مصطفى.. إنهما يسكنان بالمنطقة، وهما شيطانان صغيران، لهما بالضبط نفس ملامح ونفسية قراصنة الكاريبي. عندما أسرعت الإسعاف مبتعدة أدركا أن اللحاق بها مستحيل، برغم أنهما كانا يشتهيان رؤية الميت، تعثّر عماد على الأرض فسقط جوار الصندوق الصغير، التقطه ودسّه في جيبه ليفهم فيما بعد

هناك يقف الصبية في ركن الشارع يتبادلون التحدي والسباب. عماد يدخن لفافة تبغ إذ تأكد من أن أحدا من الكبار لا يراه، وهذا يعطيه سطوة لا شك فيها على باقي الصبية الذين لا يجسرون على تخيّل مغامرة كهذه

يقول لهم عماد:ـ
ـ وعهد الله.. وعهد الله
لسبب ما لا بد أن يقسم هؤلاء الصبية بعهد الله.. لا يستعملون طريقة قسَم أخرى
ـ وعهد الله أنا فعلت هذا
قال مصطفى في تحدٍ:ـ
ـ أنت كذاب
ـ وأنت ابن "..."ـ

وانقض الصبيان بعضهما على بعض يتبادلان الركلات واللكمات.. حاول عماد أن يفعل هذا كله ولفافة التبغ في فمه، لكن الأمر كان صعبا.. وقبل أن يفهم ما يحدث وجد أذنه في يد قاسية ترفعه عن الأرض.. وعندما نظر بحذر رأى أن هذه هالة أخته.. أخته في العشرين من عمرها، وليس لديها عمل في الحياة سوى أن تجعل أيامه قاسية
ـ سجائر وشجار! انتظر حتى أخبر أباك بذلك

تراجع الصبية في ذعر، بينما الأخت الغاضبة كآلهة الأوليمب تجر الصبي من أذنه نحو ساحة الإعدام، وهي لا تكف عن الشتائم وتوجيه الصفعات له.. كان يعرف أن أمره انتهى.. التدخين جريمة لا تغتفر في بيته

برغم هذا كان يكره أن يراه الصبية في وضع مخزٍ، لذا صاح آمرا بينما هو يبتعد:ـ

ـ الليلة سوف أريكم إن كنت كاذبا

في البيت لم يكن الأب القاسي الغضوب موجودا، فتوعدته هالة بأن عقابه قريب فعلا. لاحظت الصندوق الصغير الذي في يده فسألته عن كنهه.. قال إنه وجده في الشارع ولا يعرف ما به

مدت يدها في حذر وفتحت الصندوق.. ذات مرة ألقى أحدهم عملا سحريا على بابهم، وكان بداخله قطعة قطن التفت على أشياء عضوية مرعبة، مع لفافة ورقية كهذه.. شعرت بقشعريرة وخطر لها أن تتخلص من الصندوق، ثم مدت يدها تفتح اللفافة وقد غلبها الفضول

ولما توارى شعاع الأصيل
وعدنا من الغاب نبغى الرحيلا
وقابيل يلقى أخاه الحبيب
فتجري الدماء ويهوى قتيلا
لقد حان حينك يا ابن الدياجي
ألا تسمع الموت يأتي عجولا؟

مطت شفتها في عدم فهم؛ كانت تتوقع على كل حال أن تقرأ تعاويذ وكلمات سريانية غامضة، أو ترى رسوما غير مفهومة. لكن هذا شعر.. مجرد شعر سخيف، ليس فيه حب ولا غرام ولا سهاد.. هناك كلمة "عجولا" في نهاية القصيدة تبدو نابية للأذن، بالتأكيد ليست عجول الجزار، ولكنها تدل على التعجل

توعدت أخاها المدخن بالويل، ثم اتجهت إلى الهاتف لتثرثر مع صاحبتها

لاحظ عماد بعد ساعتين أن جريمته لم تذكر؛ لم تقل هي شيئا ولم يعرف أبوه القاسي بشيء، إنه في غرفته يلهو ويتظاهر بالاستذكار كالعادة، لكن لا شيء غير هذا

الصبية ينتظرونه كما وعدهم. إن هالة اللعينة غافية الآن بعد ما شبعت نميمة وتهريجا على الهاتف؛ لن يلاحظ أحد أنه خرج

بعد لحظات اتخذ قراره، اتجه إلى باب الشقة بحذر وفتحه وفرّ إلى الخارج. هناك في الشارع عنصره الطبيعي، هناك يصير حرا، يصير ملكا، يصير قائد الشلة الذي يبهر الأنفاس

هناك كان الصبية يقفون في تحدٍ بانتظاره، وكان أكثرهم تحديا هو مصطفى.. قال له في سخرية:ـ
ـهل علّقك أبوك من السقف؟
لم يرد.. سرعان ما اجتاز الفرجة بين الجدارين وراح يركض عبر الخرابة. كان الليل قد بدأ يزحف فلم يعد هناك سوى لون أزرق بكل درجاته، وهناك كانت المساحة الواسعة ممتدة حيث قضبان القطارات تتلوى وتتعاقد في الأفق

قطار الثامنة سوف يمر بعد قليل

بلع الصبية ريقهم وهم يرتجفون من هول المشهد القادم، هو نفسه كان خائفا لكنه كان بحاجة إلى أن يعرفوا من هو؛ بعد هذا لن يفتح أي أحمق فيهم فمه

جرى بحذر إلى أن بلغ المسافة بين القضيبين، ورقد على وجهه وغطى رأسه بكفيه

فلتمر اللحظات التالية بسرعة ...

من فنون التثبيت

هناك أشياء تظهر فى العالم بمجرد أن يتم صك المصطلح الخاص بها، وقد لاحظ الساخر العظيم مارك توين أن مرض السرطان ظهر بعد ما اخترع العلم مصطلح السرطان، لذا هو يؤرخ قائلاً (قبل اختراع السرطان كانت الأمور كذا وكذا..). نفس الشىء بالنسبة للتثبيت.. قبل أن يظهر مصطلح (تثبيت) لم يكن هناك تثبيت على ما أذكر.. كان هناك سطو مسلح..فما بعد شاع التثبيت، ويبدو أنه جزء من ثقافة العصر.

لن أزعم على طريقة حزب (احنا آسفين يا ريس) أن الحياة كانت جنة قبل الثورة. أذكر قبل الثورة بأشهر أننى كنت مدعوًا لحفل توقيع فى القاهرة، وعندما وصلت السيارة إلى شبرا اتصل بى ابن شقيقتى ليخبرنى بقصة مسلية؛ هى أن لصًا صعد وراء أختى فى سلم بيتها بطنطا، وانتزع الحقيبة التى كانت تحملها.. النتيجة أنها فقدت توازنها وتدحرجت طابقين كاملين، بينما فر هو بالحقيبة. هذا عمل يحتاج إلى أعصاب قوية من اللص ليدخل بيتًا ويصعد فى الدرج وينتزع حقيبة سيدة تقف على باب شقتها. هكذا عدت أدراجى.. لم يعد من الممكن الذهاب لحفل توقيع بينما لا أعرف ما يدور فى طنطا فعلاً.

فى ذات الزمن كانت هناك قضايا مثل سفاح بنى مر وابنة ليلى غفران واختفاء رضا هلال، وهى قضايا دخلت دائرة الألغاز الكونية التى لن نعرف حلها إلا عندما نموت.. وكنا نشكو أن الداخلية لا تهتم بالأمن الجنائى بتاتًا بل جل اهتمامها هو الأمن السياسى وأمن الأسرة المالكة. وكنت تذهب للشرطة تشكو شبابًا ضربوك أو يتحرشون ببناتك فينصحك الضابط بأن تستأجر بعض البلطجية. وقبل الثورة بأيام حدث انفجار الكنيسة الأشهر والذى لم تعرف أسراره بعد، وقال البعض بلا دليل إن مدبره هو العادلى... لا أنفى ذلك أو أصدقه ولكن أطالب بالتحقيق. الشرطة لم تكن بالكفاءة التى نتخيلها قبل الثورة برغم أنها كانت بكامل عافيتها.. آخر مقال كتبته قبل الثورة كنت أطالب فيه باستقدام خبراء أجانب لإصلاح المنظومة.

بعد الثورة استمرت حالة الانفلات هذه وتفاقمت، إلى أن بلغت ذروتها هذه الأيام، ومن الواضح تمامًا أن انهيار الشرطة هو الحل السحرى للكثيرين لأنه يقود لنزول الجيش لتولى مقاليد الحكم.. بيان أول للقوات المسلحة.. مظاهرات لا يكن.. اعتصامات لا يكن..اخوان لا يكن.. الله.. الوطن..

المجد للتثبيت فهو لغة العصر.. ويبدو أن السنجة والكزلك صارا ينتميان لعصر عزيز لن يعود، بعد ما صار السلاح الرسمى اليوم هو البندقية الآلية... يقول أحد المعلقين الظرفاء على الإنترنت إنه يفتقد زمن الأخلاق الجميلة عندما كانت لفظة (ابن الكلب) تعتبر شتيمة!

مؤخرًا كان هناك حفل توقيع فى الزمالك فى مكتبة دار الشروق، وقد قمت بترتيب كل شىء للسفر مساء. عدت لبيتى فى طنطا بصعوبة بالغة ظهرًا لأن طوابير السولار تسد كل مكان. السيارات تقف ثلاثة صفوف أمام محطات البنزين وعليك أن تمر بسيارتك من ثقب الإبرة.. فى البيت اتصل بى السائق الذى سيقود سيارتى إلى القاهرة، وكان فى مشوار فيها صباحًا... قال لى باختصار شديد إن الأحوال زى الزفت، وإن القاهرة مغلقة تمامًا بسبب إضراب سائقى الميكروباص، وإن الطريق السريع عجين من السيارات التى لا تتحرك، وأنه تلقى الكثير من قوالب الطوب فى كل نفق مر تحته، وإن معظم السيارات تعود من القاهرة لأنها عاجزة عن دخولها.. ثم قال فى لهجة حيادية:

ـ«لكن أنا تحت أمرك!»

اتصلت بصديقين فى القاهرة فقالا لى إنه من الحكمة ألا أسافر.. اليوم بالذات.. طبعًا كانت القطارات معطلة لمدة ست ساعات لأسباب مماثلة، وكل الطرق مغلقة فى مصر.. صار من ثقافة الثورة أن تبدأ يومك بغلق الطريق أولاً لأنك محتج أو لأنك غاضب، ثم تعلن مطالبك. وهكذا لم يعد من مناص سوى الاتصال وإلاعتذار عن عدم الحضور..

يبدو أن القرار كان حكيمًا لأن أحد معارفى تم تثبيته قرب قويسنا فى نفس اليوم والوقت، مع محاولة سرقة سيارته، وتم إطلاق الرصاص عليه لكنه نجا بحمد الله..

عندما مررت بميدان المحطة حكوا لى عن الرجل الذى كان يركب دراجته فى الثانية صباحًا ليشترى دواء لابنته، وتم تثبيته.. تلقى طعنات قاتلة ثم ألقوا به من فوق الكوبرى ليتهشم..

اتصلت بصديقى الطبيب فوجدت أنه تم تثبيته مرتين أثناء عودته من العيادة. يبدو أننا تحولنا إلى دولة من المثبّتين – بكسر الباء – والمثبّتين بفتح الباء. صيدليات كثيرة من ذوات الخدمة الليلية قامت بتركيب بوابة حديدية ذات نافذة، بحيث يتعامل الصيدلى من خلالها مع الجمهور الليلى.. الجمهور المتعطش للترامادول طبعًا، والذى سيقوم بتثبيت الصيدلى للحصول على كل قرص ترامادول فى الصيدلية..

واضح أن التثبيت هو الموضة، وأن من يثبّتون سوف يتم تثبيتهم.. وهكذا. إلى أن نصل إلى وضع توازن شبيه بتوازن الغازات، وهكذا تستقر الأمور ولا يثبت أحد الآخر لأن الدورة شملت الجميع..

والحل؟ لايبدو هناك حل فى الأفق. الكلام عن الضبطية القضائية والميلشيات كلام فارغ بالتأكيد وهو بالفعل وصفة الحرب الأهلية الجاهزة.. أنت تعرف ما سيحدث بالضبط عندما تعتبر كل فئة أن الصواب فى جانبها وتحاول فرضه بالقوة. فى الحقيقة أثير الكثير جدًا من الدخان والصخب حول بيان النائب العام، وكنت أتمنى أن أقول إن وراء الدخان لا توجد إلا نار ضئيلة أو لا نار على الإطلاق، لكن فوجئت بالأخ الزمر يتكلم فى قناة (الجزيرة مباشر) عن الميليشيات الإسلامية مستحسنًا، ووجدت تصريحًا للداعية فوزى السعيد يقول: « لولا أن رئيس الجمهورية أمر ألا يحمل السلاح فى أحداث الاتحادية لرأوا منا ما لا يتوقعونه، وأقول للأقلية الخارجة -المارقة- على رئيس الجمهورية لن تستطيعوا مواجهة الشعب بأكمله، وإذا احتدم الأمر فسيرون منا ما لم يكونوا يحتسبون «. وهو كما ترى كلام يصعب الدفاع عنه أو الالتفاف حوله. كلام الشيخ يقول بالضبط إن لدينا السلاح لكننا لم نستعمله، ونحن جاهزون للعنف متى اقتضت الضرورة..

هل حقًا تقدم هذه التصريحات خدمة لمرسى أو تهدئ النفوس المشتعلة؟.. وفى الوقت الذى تنفى فيه الحكومة موضوع المليشيات هذا تؤكده هذه التصريحات.

فى لقائه مع هيكل، شبّه تيتو يوغوسلافيا بحفنة رمال يمكن بالضغط أن تتحول إلى كتلة شبه متماسكة، لكن ما إن يزول الضغط حتى تتفتت ثانية. يمكن القول بوضوح إن قبضة الحكومة متراخية تمامًا على الرمال. قلت من قبل إن مرسى يقود البلاد إلى حيث يريد بالضبط. إنه ذكى لكنه لا يتمتع بالكفاءة أو الحزم. أوضاعنا تزداد سوءًا بلا توقف، ويمكن تخيل ما سنصل له بعد عام من هذه المتوالية. الحل ليس فى إزاحة مرسى أو استعداء الجيش عليه كما يفعل الإعلام أربعًا وعشرين ساعة. هذا هو طريق دخول النفق المظلم الغارق بالدماء الذى لن يخرج منه أحفادنا....

الحل الوحيد هو الانتخابات المبكرة وهذه ليست بدعة، وكل دول العالم المتحضرة تلجأ لها.. لنجدد الثقة بالصندوق ولتخضع الانتخابات لأعلى رقابة ممكنة.. إما أن يقول الصندوق إن الناس تريد استمرار مرسى، فليبق إذن ولتهدأ النيران والعواصف.. وإما أن يقول الصندوق إنه لا يريد الرجل.. فليرحل فورًا وليأت من يستطيع أن يجمع حبات الرمل هذه.. ليأت من يستطيع وقف مسلسل التثبيت.

سيمفونية البذاءة

كان موكب العروس ينطلق عبر شوارع المدينة، قاطعًا الطريق كالعادة.. لا تذهبوا لأى مكان يا سادة فنحن منتشون.. انتظروا حتى ننتهى من نشوتنا. كان موكبًا شعبيًا يتكون من عدة سيارات نصف نقل تحمل الأثاث والأجهزة الكهربائية والمفروشات، وقد اعتلى كل سيارة نحو عشرين بين نساء ورجال. أصوات الكلاكس تصم الآذان، لكن هذا كله مقبول.. الغريب فى الأمر هو أن الشباب الذين يستقلون كل عربة كانوا مدججين بالسلاح الأبيض والسيوف والسنج، وهم يرقصون بها ويلوحون فى فخر. لا أعرف دور السلاح الأبيض هنا، لكن ربما كان نوعًا من استعراض العضلات وتخويف الخصوم على الطريقة القبلية، وقد كانت هناك أغنية أفراح قديمة فى قرية قحافة المجاورة لطنطا:
ده احنا بنات قحافة.. واللى يعادينا مين؟
ده أقل واحدة فينا.. تضرب بالسكاكين
السؤال هو: عندما تلتهب الليلة وعندما يشرب هؤلاء الشباب البيرة ويبتلعون الترامادول ويدخنون البانجو – وهم ولابد فاعلون – فماذا يضمن لك ألا تستعمل هذه الأسلحة لغرض أعنف من استعراض القوة القبلى هذا؟..
تساءلت: من يستطيع أن يجمع هذه الأسلحة ثانية ويسيطر على الموقف؟.. لو عاد للحياة وزير داخلية قوى مرعب من وزن فؤاد سراج الدين أو ممدوح سالم فلن يستطيع.. حتى موسولينى نفسه لن يقدر على السيطرة على البلد الذى أفلت عياره فعلاً، وبالفعل كنت أتمنى لو لم يدخل الاخوان مستنقع السياسة لأرى ما كان سيفعله الرئيس الآخر. المشكلة أن الأمر لم يعد يتعلق بمجموعة بلطجية يعرف رجال مباحث القسم اسماءهم وعناوينهم، بل يتعلق بشعب بدأ يتحول إلى بلطجية بالكامل على طريقة مسرحية الخراتيت ليونسكو. كل طبيب فى استقبال مستشفى يعرف صدق هذه المقولة.
هذا يعنى أن أمامنا عشر سنوات أخرى حتى يسود التحضر والقانون من جديد، وبعد ما ساد مفهوم أن تحدى القانون (جدعنة) لا شك فيها. إذن هناك جيل قد ضاعت فرصته وسط هذه الفوضى. تذكرت كلمات المفكر الكبير د. يوسف زيدان التى قالها فى ندوة له فى قطر: «لا أتوقع نهضة ثقافية من أى نوع من الجيل السورى الحالى، فهو جيل قد شرخته ومزقته تجربة العنف». يبدو أن هذا الكلام ينطبق على مصر.
ساد العنف وقيمه المجتمع المصرى، وبالتأكيد لا أنكر أن الإسلاميين كانوا الطرف البادئ عندما سادت موضة محاصرة الدستورية للضغط على القضاة، وأزمة (لازم حازم) عندما كتب أحدهم: «مفيش حازم.. مفيش انتخابات»، وعندما ملئوا التحرير قبل إعلان الفائز بالرئاسة وقبل الإعلان الدستورى المشئوم، وعندما هاجموا المعتصمين عند الاتحادية.. بعد هذا صار كل طرف يفعل الشيء ذاته مكررًا أن البادى أظلم وأن الإسلاميين هم من استن هذه السنة. لكن متى تنتهى هذه الدائرة الشيطانية إذن؟.. تذكرت عبارة فى مجلة أطفال قديمة: «سوف نذهب لحرق معسكر الهنود، لنؤدبهم حتى لا يحرقوا معسكراتنا انتقامًا من حرقنا لمعسكرهم منذ شهر !».
ليكن.. سوف أبتعد عن هذا المستنقع الشائك، ولنناقش ظاهرة البذاءة.. ظاهرة تفشى متلازمة توريت فى المجتمع المصرى بشكل وبائى، والبذاءة بالطبع نوع من السنج اللفظية.. هناك جرائم تثبيت باللفظ، وهناك طعنات وهناك جرائم قتل.. هناك ذلك الاستعداد الكامن فى الجينات العربية للحرب الأهلية حتى على مستوى التعليق على مقال..
تكلمت من قبل أيام حكم مبارك عن مرض توريت، ودعنى أذكرك بقصته: فى العام 1884 وصف الطبيب الفرنسى (جيل دولا توريت) تسعة من المرضى يعانون مرضًا وراثيًا غريبًا يتكون من لازمة قهرية من التقلصات العضلية والسباب البذيء جدًا.. وقد وصف هذا المرض لدى الماركيزة (دى دامبريير) العجوز الوقور التى كانت تأتى بحركات غريبة بعضها قبيح جدًا، مع كثير من السباب، وقد بدأ المرض عندها منذ سن السابعة.. هناك شواهد تاريخية سابقة على وصف المرض ومنها رجل من النبلاء الفرنسيين – نسيت اسمه – كانوا يقيدون يديه خلف ظهره كى لا يقوم بحركات بذيئة بإصبعه فى حضرة لويس الرابع عشر ! أى أنه كان مصابًا بالمرض قبل أن يعرف الطب اسمه..
إن السباب البذيء فى كل مناسبة هو عرض مرضى يعرف باسم (كوبرولاليا)، ويمتاز بأنه يخرج من المريض تلقائيًا حتى لو لم يثر أعصابه أحد.. نفس الشيء ينطبق على الحركات القذرة باليد أو لمس العضو التناسلى باستمرار (كوبروبراكسيا).. وهناك النوع الثالث (كوبروجرافيا) وهو الولع بكتابة البذاءات خاصة على الجدران (أدخل أى دورة مياه عمومية واقرأ ما كتب خلف الباب لتعرف أن المرض منتشر).. هناك كذلك الولع بعرض الجسد العارى أمام أفراد الجنس الآخر لإثارة اشمئزازهم..
الأمثلة على البذاءة ومرض توريت كثيرة جدًا. مؤخرًا كان هناك خلاف بين الإعلامى د. باسم يوسف ورجل قانون شهير عالى الصوت. أحيانًا أختلف مع باسم، لكن لا أنكر أن نقده نظيف وشديد الذكاء، كما أنه لا يدمى غالبًا، باستثناء بعض التلميحات الجنسية التى لا أتحمس لها. ما حدث هو أن المعركة تحولت إلى حرب شرسة تتضمن كلامًا عن أسرة باسم وزوجته والبامبرز وحقائق يخلطها القانونى بأكاذيب.. فى مداخلة استغرقت عشر دقائق ذكر اسم أم باسم أو لفظة (أمك) عشرين مرة تقريبًا.. مع عشرات التلميحات وإذاعة رقم هاتف يفترض أنه هاتفها، مع طريقة يجيدها رجل القانون هى أن يوحى بأنه لا يقول كل ما يعرف.. ربنا أمر بالستر. بالطبع مع الكثير من الصراخ الذى يجيده لدرجة أن مذيع قناة الفراعين نفسه راح يرتجف ويقول بصوت خافت: «أنا ابنك عاوز أفهم منك». رجل القانون يتعامل مع الناس بطريقة ضباط أمن الدولة السابقين، فلديه سى دى لكل شخص، وكل إنسان لديه بالتأكيد فضائح أخلاقية وربما هو شاذ جنسيًا كذلك.. لا يصدقون ان الإنسان النظيف له وجود أصلاً. عندما فضل باسم تجاهل الهجوم فى الحلقة التالية، اعتبر القانونى أن هذا نصر جديد يضاف لأمجاد الشراسة والصوت العالى.
منذ متى يتم إقحام الأمهات فى الخلافات؟ هذه ليست مصر التى أعرفها بالتأكيد.
لا أحاول عمل نوع من التوازن، لكن كلا الطرفين يتعاملان بانفلات أعصاب والأخطاء تتراكم.. وماذا عن الشيخ الذى يقول (يا روح أمك) ويوزع صورًا عارية لـ (إلهام شاهين)؟.. والشيخ الذى يرى أن باسم يوسف مغر جدًا ويشبه ليلى علوى؟
هناك فى يوتيوب فيلم مقزز بذيء جدًا يظهر قادة المعارضة وجبهة الإنقاذ يرقصون على أنغام الراب.. مرض توريت يطل برأسه...
وماذا عن مظاهرة بعد منتصف الليل تقوم بها جماعة 6 إبريل لمحاصرة بيت وزير الداخلية لإلقاء... لا ليس المولوتوف.. بل لإلقاء الثياب الداخلية النسائية مع شعار (الداخلية عاهرة كل نظام)؟. هذا تصرف أقل من صورة 6 إبريل المثالية فى ذهنى بكثير..
قد يكون التظاهر فى المقطم من حقك.. لكن ماذا عن دعابة الخراف السخيفة؟. وماذا عن الاحتشاد أمام أبواب مقر الاخوان للمأمأة؟.. هل هذه طريقة معروفة للنضال؟.. وكيف تستطيع المأمأة أن تطرد الاخوان وتعيد مصر إلى العصر الحديث وتحل مشاكلنا وتقضى على البطالة وتحل أزمة السولار وتنهى الغلاء؟.. هل تعرف بما ذكرنى المشهد؟ بالمدرسة الابتدائى عندما كنا نحاصر طفلاً منا ونزفه مرددين: «حيعيط.. حيعيط !». طبعًا الكلام عن المقطم يطول لكن ليس مكانه هذا المقال..
منذ أيام رأيت قياديًا مهمًا فى جبهة الإنقاذ على شاشة الجزيرة يصيح فى عصبية: «يلعن مرسى والصندوق اللى جاب مرسى فى الأرض !». وهذا بدون مناسبة. بعدها عندما حصل حصار مدينة الإنتاج راح يتكلم عن أهمية الحوار مع الشباب الذى يحاصر البوابات.
سمفونية البذاءة.. رقصة العنف.. هذا هو البرنامج منذ فترة طويلة...
منذ يومين قال لى صديق قانط: «يبدو بالفعل أنه لايوجد حل سوى الحرب الأهلية.. فلتقم ولنتحمل العذاب بضع سنين أو نمت، وبعدها يسود الاستقرار ويبقى الطرف الأقوى.. لكن هل هم واثقون من أن الاخوان لن يكسبوا هذه الحرب فعلاً، وهم الطرف العقائدى الأكثر تنظيمًا؟...»
بالفعل لا أعتقد أن الحرب الأهلية فى مصلحة جبهة الإنقاذ والمعارضة بتاتًا. على الجميع أن يتوقفوا ويتفكروا قليلاً، ولنسم العنف باسمه والبلطجة باسمها بدلاً من تملق شيطان الغضب فى النفوس، فكلما قذف صبى ميكانيكى زجاجة مولوتوف على بناية حكومية ليستمتع بالنيران، كتبت الصحف: «الله أكبر !.. الثورة مستمرة.. أيام يناير تعود من جديد !». هل تذكرون أجواء مباراة الجزائر؟

الشئ فى الصندوق (2)



عندما يخرج الجنون من القمقم، فلا شيء يقدر على إعادته..
لأسباب ما يخرج هذا الغاز من الأنبوب، ثم يتسرب في كل مكان. لا أحد يقدر على جمع الغاز أو حبسه..
هكذا كان اللحاد جالسا في تلك الغرفة الصغيرة عند مدخل المقبرة.

كان جالسا أمام بابور الجاز -موقد البريموس حتى لا يتضايق اللغويون- وقد وضع فوقه إناء صغيرا به ماء ولحم وبصلة.. وكان يرمق النار متلمظًا.. الليلة سيكون العشاء دسما. صحيح أنها لقمة جاءت من نبش القبور.. أي أن ما يطبخه هو مجازيا لحم موتى، لكنه كان قد تجاوز مرحلة هذه الاعتبارات الأخلاقية.
سمع طرقات على الباب الخشبي المتداعي. فنهض ليفتح.

في اللحظة التالية كان الأخوان في الغرفة، وقد استطاع أن يرى الشيطان في عينيهما.. الشيطان.. هذا مشهد رآه من قبل ويعرفه..
- خيرا؟ لماذا عدتما؟
قال هشام لاهثًا:
- الصندوق خاو.. لا يوجد شيء..
- هذا شأنكما.. ليست مشكلتي
هنا قال صلاح وهو يمسك بالرجل من فتحة الجلباب ويجذبه:
- نحن نعتقد أن شيئا كان في الصندوق وقد تمت سرقته..

صاح الرجل أنه لم يفعل.. عندما تكون ضيق العينين خبيث النظرات نحيلا كفأر، فإن إنكار التهمة هو بالضبط الأسلوب المناسب لجعلك تبدو كاذبا..
راح الرجل يقسم.. أنتما حصلتما على الصندوق.. أنا نلت الحلوان.. انتهى الأمر.. ماذا تريدان بعد هذا؟
- نريد الشيء الذي في الصندوق.
- لم يكن هناك شيء في الصندوق.

كان الغضب قد بلغ الذروة.. وكل محاولة إنكار تؤكد لهما أنه سرق شيئا.. هكذا ازداد الضغط على ذراعه.. يمكنك سماع العظم الهش وهو يوشك على التحطم..
- تكلم!

السباب ينهال على رأس الرجل، والصفعات.. شابان قويان غاضبان مع رجل هش وحيد. في النهاية سقط على الحصيرة الموضوعة على الأرضية فراحا يوجهان الركلات لرأسه.. لم يعد هناك تعقل.. ركلة... ركلة.. ركلة... سوف يمر وقت طويل قبل أن يدركا أنهما أحمقان وأن فرصة استجوابه انتهت..

توقفا ونظرا إلى المشهد..
- لقد مات يا صلاح!
كان المشهد مؤكدا ولا يحتاج إلى تخطيط مخ وتخطيط قلب للرجل الراقد على الأرض. وفي لهفة راح الشابان يفتشان في الغرفة. عن ماذا؟ لا يعرفان.. عن الشيء الذي جعلهما يقتلان لأول مرة.  الآن برز احتمال معقول هو أن الرجل صادق.. لقد تسرعا جدا..

لم يتفقا على الخطوة التالية، لكنهما وجداها بديهية.. كل شيء في هذه الغرفة يحمل بصماتهما.. لذا أطفأ هشام البابور -موقد البريموس حتى لا يتضايق اللغويون- وفتح الصمام ثم راح ينثر السائل قوي الرائحة في كل مكان. للأسف لن يأكل أحد هذا اللحم الذي نضج.. لكن دعنا نتذكر أنه معنويا أقرب للحم الموتى. على باب الغرفة ألقى هشام بالثقاب المشتعل، وفرا بعيدا قبل أن يتعالى اللهب..
سوف يحترق كل شيء..

على الأرجح لن يتعب الطبيب الشرعي نفسه في البحث، ولن يجد آثار التهشيم في عظام الجمجمة.. لسنا في قصة لأجاثا كريستي هنا..
فلنفر..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كانا يرتجفان.. وشعر هشام بأن القتلة أشخاص فوق الواقع. كيف تمارس حياتك بشكل طبيعي بعد الفتك بإنسان؟
هناك في الشقة دخل كل منهما الحمام ليغتسل، ممارسا مشاعر ماكبث بعد قتل دونكان (لو اجتمعت بحار العالم جميعا على محو هذا الدم ما استطاعت).

في النهاية جلس هشام يدخن وينظر إلى الصندوق المربع الصغير. مشئوم.. نحس.. مد يده وعالج المسمار المحوي.. استطاع أن يفتحه ويخرج الوريقة الغامضة التي حيرته من قبل، فراح يتأملها:

ولما توارى شعاع الأصيل
وعدنا من الغاب نبغي الرحيلا
دعت لي بسلوى وصبر جميل
إذا ما الوصال غدا مستحيلا
وتسمع في الليل همس القبور
وأنفاس من غاب عودا نحيلا

ما معنى هذه الأبيات السخيفة؟
قرأها بصوت عالٍ على مسمع صلاح، وكان الأخوان يمقتان الشعر طبعا ولا يفهمانه لهذا لم يحصلا إلا على فكرة عامة عن معنى هذه الأبيات..
جلب صلاح زجاجتي خمر، وصب في كأسين كبيرين.. منذ زمن عرف الأخوان أنهما لا يتصنعان أي شيء أمام بعضهما. لهذا فعلا كل الموبقات أمام بعضهما دون خشية..

بعد الكأس الرابعة قال صلاح بلسان معوج:
- أنا قد أكون وغدا منحلا.. لكني لست قاتلا.. هذا أقوى مني
قل هشام بلسان أكثر اعوجاجا:
- يجب أن تنسى هذه الجريمة.. تنساها وتنسى أنك نسيتها.. لم يبقَ منها سوى غرفة محترقة ورماد
- ربما احترقت لكنها ستظل حية في ذاكرتي.. سوف يطاردني المشهد ما حييت.

ثم نهض مترنحا نحو الباب وهو يستند إلى الجدار..
- إلى أين العزم؟
قال صلاح:
- لا أستطيع قضاء الليل هنا.. لا أستطيع أن أراك أمامي.. سوف أبحث عن مكان آخر
- ليس من الحكمة أن تخرج وأنت ثمل.. من الوارد أن ينزلق لسانك.

قال صلاح وهو يعالج المزلاج بيد راجفة:
- هذا ما أنويه فعلا... سوف ينزلق لساني..
- هل تمزح؟
- ربما كان في هذا خلاصي
وواصل معالجة المزلاج..

الخمر لها إرادة خاصة بها.. تدهشك دوما بما تفعله وأنت لا تعرف أنها فعلته. لا يعرف هشام كيف طارت الزجاجة من يده لتضرب أخاه في مؤخرة رأسه..
عندما سقط صلاح على الأرض تذكر هشام الألعاب الغليظة الخشنة التي كان يمارسها في طفولته مع أخيه.. كان يمزح.. هذه ألعاب أطفال خشنة نوعا لكنها ألعاب.. هو لم يقتله.. بالتأكيد لم يفعل.. فقط أراد منعه من التمادي..

صلاح يرقد الآن خلف الباب والدم ينزف من مؤخرة رأسه والزجاج المهشم تناثر على الأرض..
إنه نائم.. بالتأكيد هو نائم.. لا توقظوه..
ضحك هشام كثيرا وهو يراقب أخاه النائم.. لعب أطفال ظريف..
عاد للمقعد وأشعل لفافة تبغ أخرى.. الدخان يرسم اسم هشام واسم صلاح في فراغ الغرفة..

صندوق لعين قذر.. لقد جعل الأخوين يتشاجران.. صب لنفسه كأسا أخرى..
مد يده إلى الصندوق وراح يعبث بأنامله.. لقد عبثت بهما العمة اللعينة.. لم تترك شيئا لكنها تركت لهما دعابة قاسية فعلا..
أخرج الوريقة المقيتة التي كتبت فيها الأبيات..

ولما توارى شعاع الأصيل
وعدنا من الغاب نبغي الرحيلا
دعت لي بسلوى وصبر جميل
إذا ما الوصال غدا مستحيلا
وتسمع في الليل همس القبور
وأنفاس من غاب عودا نحيلا
وقابيل يلقى أخاه الحبيب
فتجري الدماء ويهوى قتيلا

حك رأسه مرتين.. أغمض عينيه وراح يحاول أن يجعل بصره أقوى.. وربما بصيرته..
هذه الأبيات اللعينة.. كانا بيتين فقط.. هو متأكد من هذا.. لا شك في هذا..
هذه القصيدة تستطيل! إنها تزداد بيتا كلما هلك إنسان آخر!
جميع الحقوق محفوظة|موقع د.أحمد خالد توفيق يتحدث|eng.Mohammad Adam