تهويدة

 نم يا طفلى الصغير.. نم..
لابد أنك تشعر بالدفء والأمان الآن.. لقد تناولت وجبة دسمة وثقل جفناك، وهأنتذا تغفو فى سلام وتحلق فى عالم الأحلام. لابد أن هناك أكثر من غزالة وقطة شقية لعوب فى أحلامك.. ربما هناك أرنوب وخالة دجاجة وفأرة طباخة.. ربما هناك مرج متسع تجرى فيه.
لا شك انك سعيد بأنسام المروحة التى تطير خصلات شعرك الرقيقة على جبينك. هذه من نعم الكهرباء المهمة. فى مثل هذا الوقت منذ أسبوع كنت تبكى وقد تحول شعرك إلى عجينة من العرق. لم تكن هناك نسمة هواء واحدة وركعت أمك جوارك تحرك الهواء بالمروحة، وكنت اتمنى وقتها لو وضعت رأسك تحت المياه المتدفقة فى الحمام، لولا انه لم تكن هناك قطرة ماء واحدة والمضخة متوقفة..
حلت المشكلة هذا الأسبوع ربما مؤقتًا.. وقيل إنهم ضخوا السولار فى محطات توليد الكهرباء بدلاً من محطات البنزين. ومعنى هذا أنك تنعم بالمروحة لفترة محدودة ثم نعود للعرق والظمأ.
لحسن حظك انك صغير جدًا وليست لديك سيارة، وإلا لرأيت مشهد التقاتل المروع والطوابير الممتدة لعدة كيلومترات عند محطات البنزين. كل السيارات متوقفة تنتظر.. سمعت من يغنى أغتية فيروز على الفيس بوك قائلاً:
سألتك حبيبى لوين رايحين؟.. خلينا خلينا.. ده مفيش بنزين !
المشاجرات فى كل مكان.. كل الناس تتشاجر وروحها بلغت الحلقوم.
عاد التيار الكهربى لكنى لا أعتبره نصرًا حكوميًا.. ما يحدث اليوم هو أننا نحاول جاهدين الوصول إلى حالة الصفر التى تركنا عليها مبارك. ما يأتى فوق نقطة الصفر هذه هو إنجاز الحكومة فعلاً. نحاول الوصول بالكهرباء والأمن والسولار إلى ما كانت عليه أيام مبارك.. والسؤال هو: ماذا كان مبارك يفعل؟.. هل كان ساحرًا إذن؟..
نم يا صغيرى.. نم..
أنت لا تعرف مشكلة سد أثيوبيا اللعين.. السد الذى قيل إنه سوف يقلل حصة مصر من الماء والكهرباء 30% ويهدد السد العالى بالتحول إلى ترعة أو الغرق نهائيًا. مشكلة بدأها مبارك بسياسته الأفريقية الخرقاء، لكن حلها وقع على حكومة بلا كفاءة هى حكومة قنديل. هذا يعنى انه حتى فى وجود كهرباء لن تجد المضخة ماء لترفعه.
سوف تكتسب كل اغانى النيل القديمة مذاقًا خاصًا.. تصور سماع أغنية النيل نجاشى أو النهر الخالد او إجر يا نيل.. وكل أغانى عبد الحليم حافظ فى الستينات عن النيل والسد الالى وإرادتنا التى تسحق الصخر..
هل نتدخل عسكريًا؟.. لا اعتقد يا بنى.. انت لا تملك الطيران القادر على ضرب سد أثيوبى، وأنت لست إسرائيل التى ضربت مفاعل صدام ومقار الفلسطينيين فى تونس.. ثم انك ستجد نفسك غارقًا فى المستنقع الأفريقى وفى حالة حرب مع أربع دول.. هذه هى الحماقة بعينها، وقد ارتكب عبد الناصر شيئًا مماثلاً فى حرب 1967....
ليس لديك سوى الدبلوماسية وطلب العدل من المجتمع الدولى، وربما استخدام النفط السودانى والليبى للضغط...
نم يا صغيرى.. نم.. أنت فى أمان..
صحيح أن هناك حوداث خطف وتثبيت فى المنطقة، وصحيح ان الشرطة لا تفعل اى شيء، بل إن رقم شرطة النجدة 122 مشغول للأبد.. لكن لن يتهددك أى خطر وأنت هنا فى فراشك..
صغير أنت جدًا ولم تسمع عن حركة (تمرد)... أرى أن هذا أسلوب متحضر راق للرفض، وأفضل مليون مرة من قطع الطرق وقذف المولوتوف.. ثم انها لا تطالب برحيل مرسى..تطالب بانتخابات مبكرة تؤكد أو تنفى الثقة فيه، وأنا ارى أن هذا حل ديمقراطى ممتاز لإنهاء حالة الغليان التى نمر بها منذ عام.. ما دامت المعارضة تعتبر مرسى الحاكم العسكرى الإسرائيلى ولن تقبل له اى إنجاز، وما دامت تؤكد أن الشعب كله يكرهه، فلنعد الاختبار مرة أخرى، بشرط أن يخرس الطرف الخاسر بعد الانتخابات. شيء فى بساطة حركة تمرد يذكرنى بانتفاضة الحجارة الأولى فى فلسطين
لكن المشكلة هى ان تخرج بنتيجة عملية من هذه التوقيعات.. هناك شاعر شهير عندنا معشر الكبار اسمه أحمد فؤاد نجم يعترف بأنه وقع 16 نموذجًا من نماذج تمرد !. يحسب أنه بهذه المقولة يخدم الحركة بينما هو يطعنها فى الصميم. فيما بعد سوف تستغل مثل هذه الاعترافات للتشكيك فى الحركة كلها. يقول صديقى الفنان التشكيلى ساخرًا: « ممكن أعرف لمن يجمعون هذه التوقيعات؟ أى ما هى الجهة - الحاكمة الباطشة الآمرة - التى سيقدمون لها التوقيعات فتخلع مرسى والإخوان؟ جهة خطيرة جداً هى ولا شك فما أن ترى كل هذه الملايين الموقعة ضد مرسى والإخوان حتى تنتفخ أوداجها وتنتفض عروقها منادية - بصوت كالرعد - مورسييييى.. تعال هنا.. فيأتى المذكور مطأطيء الرأس ذليلاً ولا يستطيع الرد حين يواجه بكل هذه التوقيعات.. من ثم.. تصرخ فيه (هذه الجهة) قائلة: عليا النعمة من نعمة ربى مانت بايت فيها الليلة.. وعليه حيأجر عربية نص نقل شيفورلية (من النوع اللى بيسموه دبابة) يحط عليها عزاله ويتكل على الله - هو وأم أحمد - مغادراً الإتحادية إلى الزقازيق بلا رجعة»
صورة طريفة بلا شك، لكنها حقيقية..
أخشى ما أخشاه أن تشتعل النفوس أكثر وان يقتتل الطرفان، وان تؤدى هذه الحركة السلمية الراقية إلى مذابح...
المشكلة يا صغيرى هى أننى لا أحب الأخوان.. لا أحب تحزبهم وتقوقعهم وتعاليهم على الآخرين، ولم أنس مقولات (طظ فى مصر) وعدم ثقتهم فيمن ليس اخوانيًا مثلهم. فى نفس الوقت لا أحب المعارضة بتصيدها الأخطاء وافتراءاتها ورفضها نتائج الصندوق، وإصرارها على التغيير بأى طريقة غير الطريق السلمى المعروف، وتناقضاتها لدرجة ترحيبها بالحكم العسكرى الذى كانت تقاتل ضده منذ عام.. شعارهم: الديمقراطية هى الحل، بشرط أن تأتى بنا نحن. البرادعى حكيم الثورة قد توارى فى اللحظات التى احتجنا له فيها فعلاً وفضل التويتر.. أنا إذن ضد الطرفين معًا...
زمن قاس هو.. أيام عصيبة هى.. وحظ عاثر يترصد بمصر...
لا أعرف يا بنى.. مصر بعد الثورة تشبه جهاز كاسيت السيارة الذى حاولت أن أصلحه بنفسى.. فككته.. ضاعت مسامير عدة ونسيت شكله الأصلى، وفى النهاية أدركت أننى عاجز عن إرجاعه لحالته الأولى، ووضعته فى كيس بلاستيكى بانتظار لحظة الفرج.
فى الأسبوع الماضى قابلت اكثر من شاب واعد ينهى اوراق الهجرة، وكان رأى كل منهم انه لا جدوى هنالك. لا أستطيع ان ألومهم.. على الأقل سيذهبون إلى بلد فيه ماء وكهرباء وبنزين.. ربما كان على أن أفكر فى مستقبل افضل لك فى بلد آخر.. لكنك تعرف كما اعرف أننا لن نفعل هذا. فى النهاية تعود الطيور المهاجرة، ولأسباب كهذه يصير مجدى يعقوب أهم مواطن بريطانى، ثم يعود ليعالج أطفال الصعايدة، ويعود آخرون لأن خلاياهم فى النهاية مصرية.
نم يا صغيرى.. نم.. ربما كان هذا كله كابوسًا.. ربما تصحو فلا تجد مرسى ولا البرادعى ولا حكومة أخوان ولا جبهة إنقاذ ولا أثيوبيا ولا قاعدة فى سيناء ولا انقطاع كهرباء واختفاء سولار..
صدقنى.. كل شىء ممكن..

جميع الحقوق محفوظة|موقع د.أحمد خالد توفيق يتحدث|eng.Mohammad Adam